د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كنت قد أشرت في المقال السابق إلى أن شعر أبي تمام والمتنبي قد انتشر في المعاهد والمدارس منذ مراحل التعليم الأولى، وأصبح النموذج القريب إلى قلوب الدارسين؛ يستشهدون به على ما يريدون، ويحملونه من وجوه البلاغة والقول ما يستطيبون، حتى أصبح معروفاً لدى صغار المتعلمين، يدخلونه في أهازيجهم، ويضمنونه ألعابهم، وطرفهم؛ وهو ما حوّله من أدب عالٍ، يُتلى في مجالس الخلفاء، ويتسابق الأمراء على تعلمه، وتعليمه أولادهم، إلى مادة يأخذ منها العامة والسواد بطرف، يلجؤون إليه حين يرغبون إظهار براعتهم، والتفاخر بمخزونهم من الأدب؛ وهو ما حوّله إلى جزء من الثقافة الشعبية.
وهنا يأتي السؤال: أليس هذا التحول دليلاً على انتشار شعر هذين الشاعرين، وازدهاره، وقدرته على النفاذ إلى أكبر شريحة من المتلقين؛ ليكون تأثيره في أوساط العامة كما هو في أوساط النخبة؟ قد يكون للوهلة الأولى هذا صحيحاً، لكننا لا نلبث حين نتأمل هذه الحال أن نجد أن هذه الصلة بين العامة وشعر هذين الشاعرين صلة خديجة، لا تقوم على فهمه أو إدراك ما فيه من قيم فنية وموضوعية، بقدر ما تقوم على الحفظ والاستظهار، واتخاذه أداة للسخرية والتندر على الأدب وأهله، والتقليل من قدرهما بوصفه أحد معارف الصبيان وأهازيجهم.
هناك في تاريخ الأدب العربي نماذج خرجت من إطارها النخبوي التاريخي لأن تصبح جزءاً من الثقافة الشعبية؛ فانتشرت أخبارهم وحكايتها بينهم حتى تداخلت أخبار الحقيقة بالخيال، وأصبح كثير من الناس يشكون في حقيقة وجودها؛ «فأبو نواس» مثلاً شاعر كبير في زمنه، وهو معروف بين العامة، يتذكرون أخباره وقصصه، وربما يروون شيئاً من أشعاره المتصلة بتلك القصص.
ولا أحد يعلم على وجه الحقيقة عن صحة هذه الأخبار والأشعار المنسوبة إليه، بيد أنها تظل ملحقة بأبي نواس الشاعر المعروف تاريخياً، وتتصل بصورته التي ارتبطت بذهن العامة حوله أو الحيز الذي وضعته العامة به.
ومثل أبي نواس أيضًا عنترة الفوارس، والزير سالم، ومجنون بني عامر، وهذا قد انتشرت أخباره وقصصه بين الثقافات غير العربية؛ فصرنا نجد نسخة منه في الأدب التركي، والفارسي؛ فكل واحد من هؤلاء الثلاثة قد صار لهم سيرة تتلى بين الناس، تتضمن أخبارهم وشيئاً من أشعارهم، تتوارثها الأجيال؛ فيحكيها السابق للاحق.
بيد أن هذه النماذج قد اتسمت بوجودها الكامل في الثقافة الشعبية المستقل عن الأصل التاريخي، والموازي له.. قد تتصل به بعض الاتصال، لكنها تمثل شخصية مستقلة عن الأخرى التاريخية؛ فهي تتحول بتحول الثقافة الشعبية في حين تبقى الأولى في المصادر الأدبية والتاريخية، وفي مجالس الدرس بين المتأدبين والخاصة.
هذه الشخصية الشعبية لأبي نواس ومن ضارعه من الشعراء تتفق مع المخيال الشعبي الذي أسهم في بنائها، فجاءت ملبية الاحتياجات الشعبية في النموذج الذي ترغب في أن يرضي بعض حاجاتها النفسية والعاطفية في المقام الأول، فجاء ظريفاً مضحكاً متهتكاً في شخصية أبي نواس، تنسب له كل خلاعة واستهتار، وشعر يدور حولهما، وجاء بطلاً صامداً يجمع بين الشجاعة والأنفة والعفة، والقوة في أخبار عنترة، وجاء شجاعاً مغواراً قوياً، لا يبالي بالمخاطر ولا الأعداء مهما علا شأنهم في سيرة الزير سالم.
وعلى هذا فإن التحول الذي أصاب سير هؤلاء الشعراء حتى أصبحت ثقافة شعبية لم يسهم في إضعاف أشعارهم، ولم يؤدِّ إلى موتهم بقدر ما أسهم في ميلادهم من جديد، ولكن بصورة تتوافق مع المتلقي الذي لا يدرك ما في شعر أبي نواس من قيم فنية وموضوعية، أو لا تعنيه بقدر ما تعنيه الأبيات بوصفها جزءاً من حيلة استطاع أن يتخلص بها من عقاب هارون الرشيد، أو زبيدة، أو حجة يمكن أن يوظفها في بعض ما يقابله من مواقف، أو حكاية يرغب أن يتحفظها لأجل أن يسلي بها أصحابه في السمر بوصفها طرفة يمكن أن تقضي على مللهم، وتشبه أحوالهم، وهم يتصورون أبا نواس واحداً منهم، يعيش حالاتهم البائسة، ويعبّر عن معاناتهم، وهذا يعني أن الظهور الشعبي لهذه النماذج قد منحها حياة أخرى، تُضاف إلى الحياة الأولى التاريخية الواقعية، تثري الأدب، وتوظف نماذجه في بناء أجناس جديدة.
غير أن هذه الحال لا يمكن أن تعد هي حال شعر أبي تمام والمتنبي مع العامة؛ فهم لم ينشئوا نماذج جديدة لهذين الشاعرين، ولا بنوا سيراً شعبية تحكي حياة كل واحد منهما، وتعبّر عما يمكن أن يمس حياة عامة الناس فيما اشتهر من تلك الشخصية، ولا صاروا يتداولون أخبارهم بين أجيالهم، وكل ما جاء في ذلك هو الرغبة في الالتحاق بأهل الأدب من خلال الاطلاع على شعر هذين الشاعرين الكبيرين، وحفظ بعض أشعارهما لإثبات تلك المعرفة وهذه الثقافة، وربما تحميلها ببعض المحمولات التي لا تتصل بها، وهذا لا يعد ميلاداً جديداً بحال، ولا حياة أخرى من نوع مختلف.