د عبدالله بن أحمد الفيفي
-1-
اللغة كائنٌ حيُّ، تجميدها في حقبةٍ لغويَّةٍ، أو البحث عن استعمالٍ منها في عصرٍ لغويٍّ محدَّد - حدَّده بعضهم، للغة العربيَّة، بما قبل 150 هجريَّة - هو إعاقةٌ لها، وتحجيرُ واسعٍ فيها، وإماتةٌ لطاقاتها الكُلِّيَّة، وتَلْخِيْمٌ لعبقريَّتها في التجدُّد، وتعطيلٌ لقدراتها على مواكبة المعاني، ومَدِّ ظِلالها غير النهائيَّة، واتجاهاتها الدلاليَّة الحافَّة. وإنما تنبغي مراعاة نواميس النظام اللغويِّ العامِّ وقياساته، لا التشبُّث بحرفيَّة المسموع من اللغة في المعاجم. وليت شِعري كم سمع علماء اللغة عن العرب؟! أقلُّ القليل. بل ما كانوا إلَّا نَقَلَة، وسمَّاعين، ورواة، لا باحثين، ولا ذوي مناهج عِلْميَّة قويمة في الاستقراء، على الغالب.
أولئك العلماء الذين كثيرًا ما كانوا يختمون تخميناتهم بعبارة: «والله عزَّ وجلَّ أعلم»، كقول (ابن منظور، لسان العرب، (هرش))، مثلًا: «الجوهري: هَرْشَى: ثَنِيَّةٌ في طريق مَكَّة، قريبة من الجُحْفة، يُرَى منها البحرُ، ولها طريقان، فكلُّ مَنْ سَلَكَهما كان مُصِيبًا. وفي الحديث ذِكْر ثَنيَّة هَرْشَى؛ قال ابن الأثير: هي ثنيَّةٌ بين مَكَّة والمدينة، وقيل: هَرْشَى جبلٌ قريبٌ من الجُحْفة، والله عزَّ وجلَّ أعلم». وإذا كان هذا في أمر مكان، طريق أو جبل معروف، فكيف بما سِواه؟! وما من شكٍّ في أن الله أعلم بكلِّ شيء، وليس المجال بمجال شكٍّ أو إثبات، لكن تلك العبارة إنما تدلُّ على شكِّ العالم نفسه في ما توصَّل إليه من معلومات؛ إمَّا لأنه لم يستطع أفضل ممَّا استطاع، وكأنه بصدد شأنٍ من أمور الغيب، لا يعلمه إلَّا الله، وإمَّا لأنه يريد أن يُلقي بتلك العبارة عن كاهله العبءَ وأمانة البحث. وإلَّا فالباحث مفترضٌ فيه أن يتأكَّد بنفسه من صحَّة المعلومة، ولاسيما حين تكون بحجم جبلٍ كجبل (هَرْشَى)، على سبيل المثال. وعلى هذا فقس!
ولقد كان ما أُثبِتَ سماعًا من العربيَّة نِسبةً قليلةً جِدًّا من اللغة، حتى قال (أبو عمرو ابن العلاء): «ما انتهَى إليكم ممَّا قالت العربُ إلَّا أقلَّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم عِلْمٌ وشِعرٌ كثير» (1).
-2-
وقد أتاحت لي تجربتي العمليَّة في مجلس الشورَى، خلال العِقدَين الأخيرَين، اطِّلاعًا ميدانيًّا على بعض ما يشتجر الناس في صحَّته لُغويًّا من استعمالات المعاصرين، ولاسيما وأنا بين كوكبةٍ من مختلف التخصُّصات والاهتمامات ومشارب الثقافة. من ذلك الخلاف حول قول الناس: «خَصَمْتُ من المبلغ كذا»، فيأتيك بعضهم عارضًا رمحه: الصواب: «حَسَمْتُ...»، أي: قطعتُ، أو اقتطعتُ. مع أني لم أجد (محمَّد العدناني) قد تطرَّق إلى هذه المسألة في كتابه «معجم الأغلاط اللغويَّة المعاصرة». لكني كنتُ أرَى أنَّ التعبير بـ»خَصَمْتُ» ليس بخطأ، وأن له أصلًا في العربيَّة. ولعلَّه مشتقٌّ من «الخُصْم»، وهو طَرَف الشيء وجانبه. جاء في (الزمخشري، أساس البلاغة، (خصم)): «ضَعْه في خُصْم الفِراش، وهو جانبه». فكأنَّ قولهم: «خَصَمَ المبلغَ» بمعنى: نحَّاه وجَنَّبَه، أي جَعَله في خُصْم الحسبة. وقد وجدتُ (النويري، شهاب الدِّين أحمد بن عبد الوهَّاب، -733هـ = 1332م)، في كتابه «نهاية الأرب في فنون الأدب»(2)، يستعمل هذا التعبير في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله، تحت عنوان «ذِكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم»: «وإنْ صرفَ نقدًا بنقدٍ ذَكَرَه بعد الفذلَكة، واستَقرَّ بالجملة بعده وإلَّا فالفذلَكة بمفردها؛ ثمَّ يَخْصمُ تلك الجملةَ بما لعلَّه حملَه أو نقلَه على معاملةٍ أخرى أو صرفَه...». ويقول: «وقد اقتُرِح في بعض الممالك الشاميَّة في بعض السنين على المباشرين أن يُضمِّنوا خِتَمهم ما يوردونه في الأصل من جهات الأصول - كلِّ جهة من المستخرَج والمُجرَى - الأصلَ مختومًا والخَصْم مفصَّلًا بجهاته؛ مثال ذلك أن يقول في الأصل: الجهةُ الفُلانيَّةُ في التاريخ الفُلاني كذا وكذا درهمًا(3)؛ ويذكُر تحت ذلك التاريخ خَصْمَ تلك الجملة؛ وفي الخَصْم إذا ذكرَ اسم ربِّ استحقاق وما وَصل إليه في كل تاريخ يقول: التاريخ الفُلانيّ؛ ويعيِّن جهاته؛ ويشطب المسترفعُ الأصلَ على الخَصْم... وأمَّا التوالي، فهي إذا أُطلِقت أُريدَ بها توالي الغلال؛ وكيفيتها أنه إذا مضت مُدَّة على ما قدَّمناه في شرح الختَم نَظَم كاتب الجهة حسابًا للغلَّة، اسمه التالي، يشرح في صدره بعد البسملة: تالٍ بما انساق حاصلًا من الغلال بالجهة الفُلانيَّة إلى آخر المُدَّة الفُلانيَّة، مضافًا مخصومًا إلى آخر كذا». وقوله: «فمن الكُتَّاب من يسوقه بجملته حاصلًا، ويَخْصمُ بمقتضى التالي؛ ونهم من يَخْصمُ بما حَمَلَه وصرَفَه في مُدَّة تحصيله للمَغَلِّ، ويسوق ما بقي إلى الحاصل، ويَستغني بذلك عن تالٍ لتلك المُدَّة». وقوله: «فإذا ذَكَر ما وَقَع عنده استقرَّ حينئذ بالجملة على ما قام عليه ميزان عمله؛ ثمَّ يَخْصمُ بما يَسُوغُ الخَصْمُ به، ويسوق إلى حاصله». وقوله: «... ويفصِّل المستخرَجَ والمتحصّل بسنيه، ثمَّ يَخْصمُ ما استخرجه وحصَّله، فيبدأ في الخَصْم بالحَمْل من الأموال، والحمول من الغلال والأصناف...». وإنما أطلتُ الاستشهاد، لا لبيان استعمال الكلمة في تراثنا فحسب، ولكن أيضًا لبيان اهتمام هؤلاء بأصول المحاسبات والمعاملات. صحيح أن النويري كان يستعمل المصطلح الدارج في زمنه، القرن السادس والسابع الهجريَّين، بَيْدَ أن لذلك المصطلح وجاهته كما تقدَّم، ومِن تنطُّع الهالكين، اليومَ، تخطئة من استعمل «خَصَمَ»، لا «حَسَمَ»، وكأنه قد جاء منكَرًا من القول وزورًا.
إنَّ للوأد عند العَرَب ضروبًا وأشكالًا، منها وأْد العَرَبيَّة في تراب التراث، أو في بحر الآخَر!
(1) الجُمَحي، ابن سلَّام، (-231هـ)، (1982)، طبقات الشعراء، تح. جوزف هل (بيروت: دار الكُتُب العلميَّة)، 34.
(2) طبعة (القاهرة: دار الكُتب المِصْريَّة، 1350هـ= 1931م)، 8: 276- 278، 285، 289.
(3) كلمة «درهم» في لسان العرب تعني العُملة النقديَّة عمومًا، بقطع النظر عن نوعها. وما زال التعبير بـ»الدراهم» في هذا المعنى العامِّ متداولًا إلى الآن في لهجات الجزيرة العربيَّة، مع أن العُملة المتداولة ليست الدرهم بل الريال. وبهذا جاء التعبير القرآني عن الثمن البخس الذي اشتُري به (يُوسف، عليه السلام): «دراهم معدودة». وجاء في الحديث كذلك تحقير «عبد الدرهم والدينار». أفيعني ذلك استثناء عبد اليورو والدولار، مثلًا؟! ومن الطرائف أن ينتقد بعض المتفطِّنين الأغبياء نصَّ القرآن لتعبيره عن العُملة التي اشتُرِي بها يُوسف بـ«الدراهم»! وعلى افتراض صحَّة هذا الاعتراض من حيث تاريخ العُملات، وما هو بصحيح، فإن التعبير القرآني ليس إلَّا تعبيرًا عامًّا عن المبلغ الزهيد، أي بما يُعادِل دراهم معدودة، ولم يكن الغرض تحديد «فاتورة» السِّعر الذي بيع به يوسف. ومع أن القرآن ليس بكتابٍ في العُملات القديمة والتاريخ أصلًا، فإن أولئك المتفطِّنين المعاصرين لا يفقه أكثرهم سياقات الخطاب عادةً، فضلًا عن معرفة لغة العرب وتاريخ الألفاظ والدلالات، بل قد لا تعنيهم الوجاهة العِلميَّة لما يُماحكون فيه بدعوَى الانتقاد، وإنَّما يَؤُزُّ بعضَهم إلى الانتقاد وازعُ الاعتقاد.