د. عبدالحق عزوزي
تتوالى الأحداث السياسية بطريقة غير منتظرة في بريطانيا، ولعل آخرها استخدام رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون صلاحياته الدستورية بتعليق عمل البرلمان اعتبارًا من منتصف سبتمبر/أيلول إلى 14 أكتوبر/تشرين الأول. وجاءت هذه الخطوة في إطار سياسة لوي الذراع مع المعارضة الرافضة لبريكسيت من دون اتفاق، والتي اعتبرتها «فضيحة دستورية». ووافقت الملكة إليزابيث في وقت لاحق على خطة جونسون لتعليق عمل البرلمان. ولم يخطر على بال أحد من كبار الدستوريين ولا المحللين الإستراتيجيين البريطانيين أن رئيس الوزراء البريطاني سيتجرأ للقيام بمثل هاته المبادرة.
ولاجرم أن عمله هذا يأتي مباشرة بعدما أصدرت أحزاب المعرضة بيانًا أعلنت فيه تصميمها على التصدي بشكل عاجل لاحتمال تنفيذ بريكسيت من دون اتفاق في 31 أكتوبر/تشرين الأول؛ وأضاف بيان حزب العمال والحزب الوطني الإسكتلندي والليبراليين-الديمقراطيين والحزب الوطني في ويلز وحزب الخضر والمجموعة المستقلة من أجل التغيير أن «المشاركين اتفقوا على الحاجة الملحة للعمل معًا لإيجاد الوسائل العملية لتجنب غياب الاتفاق، بينها إمكان التصويت على قانون وحجب الثقة» عن الحكومة.
ورأينا في المقابل تصريحات الرئيس الأمريكي على هامش اجتماع مجموعة السبع المرحبة ببوريس جونسون وبالبريكست، ووعوده اللامتناهية لجعل السوقين الأمريكي والبريطاني محلين لانتقال السلع من كلا البلدين دون مشكلات؛ وهو ما جعل في الأخير المعارضة البريطانية تتخوف من المصير المظلم الذي ينتظر بعض القطاعات الحيوية في بريطانيا، حيث حذرت من أن الخروج من دون اتفاق يصب في مصلحة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب...
وكل هذا جعل رئيس الوزراء البريطاني يتخوف من طول المناقشات العقيمة التي تتيحها رياح الديمقراطية البرلمانية البريطانية على شاكلة ما وقع للسيدة تيريزا ماي المستقيلة وقام بخطوته هاته لمنع البرلمان من مناقشة بريكسيت وأداء مهامه في صياغة مسار للبلد.
ما يقع اليوم في بريطانيا سيكون له تداعيات كبيرة على مستقبل المنطقة، فالبعد الوطني السيادي الأحادي سيقبر بشكل جذري البعد الوحدوي الاتحادي التشاركي، ولأن الذي يقوم بهذا التوجه ليست دول كالبرتغال أو كهنغاريا وإنما أقوى دولة أوروبية ومن أقوى دول العالم، فلم ولن تفلح الدعوات الأوروبية المتتالية بالتزام الحكمة، ولا دعوات الشركات العابرة للقارات من إبقاء البلد حفظًا على مصالح البلاد والبشر، ولا وصول عمدة مسلم إلى بلدية لندن أقوى العواصم في العالم. لم يفلح كل هذا في إقناع متكلمي لغة شكسبير من تفضيل البعد الاتحادي على البعد الوطني. البريطانيون رجال متعلمون، يلج أبناؤهم أعرق الجامعات، وأصبحت البلدة عاصمة للبحث العلمي والاقتصاد وعالم المال في العالم، ولكن لهم شعور بأنه لا يحق للمنظومة الأوروبية إملاء القوانين أو الدروس على مسيرة البلد السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي رسمتها منذ قرون. كما مل البريطانيون الدفع للآلاف من المهاجرين من صناديق الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية، واقتنع سكانها أن العالم يتقلب، وأن مستقبل دولة ذات اقتصاد قوي في عالم متقلب وهجرة مثيرة بسبب الأزمات والحروب يكمن في غلق الحدود وليس في فتحها وهنا المصيبة....
رغم شجاعة رئيسة الوزراء البريطاني المستقيلة وعملها الدؤوب وشهرتها على أنها تستطيع الصمود وسط ظروف شبه مستحيلة، فإن ذلك لم يسعفها في امتصاص غضب البريطانيين بل وحتى أعضاء حزبها؛ كما أن قرارها بإجراء انتخابات في 2017 كان قد خلّف لها آنذاك وضعًا صعبًا جدًا، إذ خرج منها حزب المحافظين بعدد مقاعد في البرلمان أقل مما كان عليه قبل الانتخابات. ناهيك أن مسلسل البريكست كان قد أفقدها الكثير من أهم أعضاء الحكومة في فترة زمنية قصيرة.
يخاف بوريس جونسون من مثل هذا المصير المظلم، ويخاف من الانقسامات المتتالية التي يمكن أن تحدث بسبب الطبيعة السياسية للبرلمان ولنوعية الأحزاب والمجال السياسي المتواجدة، ناهيك عن المنافسات اللامتناهية على القيادة....ولكن يقيني أن بريطانيا ستعرف أوقاتًا عجافًا، وستعرف بلبلة في الأسواق وفي حي المال والأعمال، وهبوط سعر الجنيه الإسترليني، وتضخمًا، وزيادة في كلفة العمل، فيما سيتراجع النمو كثيرًا، وستزيد هاته الأجواء من نقل آلاف الوظائف من حي المال والأعمال إلى مركزي فرانكفورت وباريس الماليين ولن تتعافى إلا بعد مدة طويلة، تاركة وراءها آثارًا جانبية في العديد من الدول الأوروبية.