هدى مستور
فاقدٌ نظره، اعتاد أن يسلك الطريق نفسه في ذهابه وعودته إلى بيته دون أن يسقط؛ فاعتياد الطريق يعمل لصالحه.
لا شك أنه فاقدٌ الاستمتاع بكثير من مباهج الحياة، ولكنه طالما يعبر الطريق نفسه فهو - على أية حال - في وضع آمن.
عدد كبير منا حاله كحال هذا الأعمى؛ تمضي أيامه، يكرر الطريق نفسه. هذا التكرار وإن وفّر عليه جهدًا ووقتًا كبيرَيْن، بعد أن اعتاد الممارسات نفسها، إلا أن الجانب المظلم منه أنه يربك آلة التصوير البصري لديه؛ فلا يعد قادرًا على الاستمتاع بما اعتاد على رؤيته في كل مرة، ولم تعد ذائقته تتمتع بحس الاندهاش من زخارف الأشياء حوله، كما أنه - أي التكرار - يضعف قدرات التركيز الذهني لديه؛ فالمهام لديه تؤدَّى بصورة آلية، والمعاملات تسير وفقًا لإجراءاتها المعتادة، والاجتماعات تنتهي بتعبئة أجندة التوصيات.. أما المهارات فتتحول إلى ممارسات تلقائية ومألوفة، تصطف بجانب المهارات القديمة، كالمشي والتحدث وقيادة السيارة.. أما على الصعيد النفسي فهو وإن شعر معه صاحبه بالأمان إلا أنه أحد أقوى مقدمات الدخول في دوامة الشعور المتفاقم بالملل، والضيق، ورتابة الأيام.. وقد يفضي به إلى حالة متقدمة من القلق لفقدان المعنى الكامن وراء الحياة.
وحين نقول فقدان المعنى الوجودي فنحن نعني ما نقول جيدًا، وبالعمق نفسه.. فمن يكرر الشيء نفسه دون أن يختبر كل يوم شيئًا جديدًا ومختلفًا فهو غير متفق مع إيقاع الأيام المتجددة، ولا يتناغم مع حركة الكون المتسعة، سواء من خلال التقدم لخوض تجارب الحياة، أو حتى الانتباه لمباهجها؛ فهو وبمحض اختياره قد حكم على نفسه أثناء تفاعله مع حياته، إما بالعشي أو فقدان النظر بالكلية في عالم الكون البهيج والفسيح معًا.
هو قد اختار أن يعيش حياة روتينية واحدة بدلاً من أن يجرب حيوات حقيقية حرة في كل مرة. ولأن العمل الوظيفي هو الخيار الذي يصرف فيه الإنسان جُل طاقته، ويقضي فيه أكثر ساعات يومه، فمن يؤدي عمله بصورة نمطية سيضعف، ويتخدر إحساسه بالقيم الإنسانية الملهمة التي تقف خلف إنجازاته. يتم ذلك بصورة تدريجية.. وسيأتي عليه زمن يفقد فيه هذه القيمة بالكلية!.. فمن كانت وظيفته تحتم عليه لقاء الجمهور، وتقديم الخدمات لهم، والتأثير عليهم، كالخطيب أو المعلِّم أو المحاضر.. ونحوهم ممن وقع في أسر الاعتياد، يكرر كلماته، ويلوك دروسه بطرف لسانه، في حين أن عقله شارد، ومشاعره باردة، وإرادته فاترة، وحماسته مخدرة.. وكلنا يتفق أن وراء المشاعر والأحاسيس تكمن طاقة التأثير والتغيير.
ومما لا يقل أثرًا وخطرًا القاضي؛ فوقوعه في قبضة العادة والروتين يتناسب عكسيًّا مع قوة الإحساس بأمانة وظيفته القائمة على تحقيق العدالة. وكل من اختبر التعاطي مع القاضي الرتيب يؤكد أن ملف القضية تتراكم أوراقه، ويمتد زمن جلساته، ثم يتم إنهاؤها بطريقة مربكة وعاجلة، لا تخفي وراءها إلا نية التخلص من ملف تضخَّم وامتد، لا بنية إحقاق الحق!!
وكذلك الطبيب حين يفتر حماسه، وتزداد وتيرة رتابته، يحس بذلك مريضُه العالق، وقد يتسبب في إهمال حالة المريض وترديها، أو في هدر طاقته وماله في حال تنقُّله بين عيادات الأطباء.. وقِسْ على ذلك.
السائر الأعمى هو لا يلحق الأذى بمجتمعه حين يقدم محتوى رديئًا، وإنتاجًا لا تتوافر فيه معايير الجودة فحسب؛ إذ هو معرَّض لسقطة عنيفة حين تظهر له في الطريق مفاجآت غير سارة، وغير متوقعة، إلا أن هذه السقطة قد تعيد إليه بصره، ورشده. وإلى أن يتعثر في طريقه فلا بد من تنبيهه إلى أن جولة نتاج رتابته ذات حركة دائرية، تبدأ منه، وتعود إليه.
وطالما أن هناك أدعية وابتهالات وصلوات خاشعات، تريحنا، وتفصلنا عما حولنا، وما دمنا نمارس مهارات كالتمارين الرياضية، ونزاول الهوايات المحببة: كالرسم والكتابة والقراءة والبستنة وغيرها كثير، نؤديها بحضور كامل، ووعي تام، فإن حالة استرداد النظر بالتحرر من الشعور بقيد الروتين ونمط العمل متاحٌ ووارد جدًّا.
ولأن الذهن اعتاد على الشرود، وقد يصل لحالة متقدمة مما يسمى بالبلادة الذهنية، ولأن الإرادة فترت، والهمة ضعفت، فإن إعادة تأهيل ذلك كله يكون بالتدريب المنضبط. وهناك طقوس يمكن مزاولتها بتلقائية وانجذاب، ودونما إرغام؛ وذلك للتحرر من عمى الروتين:
* درِّب نفسك على الانتباه الواعي، الانتباه أولاً إلى ما يجري في أعماقك، إلى النوايا؛ فهي الطاقة الكامنة التي تقف خلف جميع الأعمال «إنما الأعمال بالنيات». اسأل نفسك دائمًا، وقبل البدء بأي مهمة: ما النية التي تقف وراء تلك المهمة؟.. لا تمل من طرح هذا السؤال مرات عدة قبل أن تنجح في العثور على الإجابة الصادقة والعميقة بداخلك.
والنية الجوهرية هي ما تضفي للعمل التوهج، والنفاسة، وللنفس الكفاية، والمتعة، ولسمت صاحبها ديناميكا متميزة، هذا فضلاً عن ديمومة النفع وبقاء الأثر.
* إن ضاعت نيتك منك، وفقدت بوصلتها أمام أحداث الحياة المرهقة، وروتينها الممل، فإن اعتناقك قيمة ما هو ما يسهم في إلهامك ودعمك للعثور على نيتك، ونفث الحياة فيها من جديد.. فمثلاً إن كنت ممن يعتنق «العطاء والبذل» فهذه القيمة كفيلة بإعادة نظرك إليك. وإن كنت ممن يميل كثيرًا إلى قيمة «العدالة» فإن نيتك ستعمل في خدمتك.. وهكذا؛ فالقيم العميقة هي ما تغذي النوايا التي بدورها تغذي بصرك وبصيرتك.
* درِّب نفسك على الحضور، والانغماس الكلي في لحظتك.. اطرد كل شعور أو فكرة تجعلك عالقًا في حدث قد مضى، أو آخر لم يأتِ بعد. يمكنك حين تنسحب بغير وعي من لحظتك طرح سؤال على نفسك في الحال؛ لينتشلك من شرودك كـ: أين أنا؟.. وبماذا أشعر الآن؟.. وعدد ممن جربوا إشعارات الضبط والمداهمة تلك استبدلوها بالتسبيح والاستغفار وذكر اسم الله تعالى فوجدوا في التزام ذلك نقلات مريحة جدًّا.
* درِّب نفسك على الانتباه الواعي لساعات تراجع عطائك، وتكدُّر مزاجك، وضَعْف منسوب إنتاجك، متى يحدث غالبًا؟.. واربط بين ذلك التراجع والتغيرات الفسيولوجية والنفسية الطارئة عليك.
* انتبه للتفاصيل الجميلة من حولك، وركِّز بكثافة صوب اللحظات السارة؛ فهي ولو كانت صغيرة، وغير لافتة، إلا أنها تثير شهيتك نحو الابتهاج والانتشاء، وبصورة كبيرة.
* اختبر القيام بإجراءات تحسِّن حالتك دون أن ترفع في حسك الشعور وكأنك في حالة الطوارئ، ومن ذلك: سباق الماراثون ذو المسافات القصيرة. اختر أوقاتًا قصيرة ومتقطعة خلال عملك، كفواصل للاسترخاء أو للتأمل أو لممارسة أي نشاط قصير تفضله، كتمرين رياضي، أو قراءة خفيفة، أو تجاذب أطراف الحديث مع شخص ترتاح له.. فهذا من شأنه رفع مؤشر حالة العافية، وتجديد النشاط بعد أن يحررك من الشعور بالضغط، والقمع، والضيق. ولا تثق في دعوى أن ذلك سيقلل من إنتاجك؛ إذ الاعتبار بالجودة وليس بالكثرة أو العدد. وتذكَّر أن الجد الزائد في العمل قد يحوِّل العمل إلى التزام بغيض، وروتين صارم، وإنتاج فاتر؛ فلا مكان للاعتراض من أن فواصل التسلية المقترحة في العمل تشبه الهرب من الصفوف المدرسية!
* اقبل المهام التي تثير التحدي بداخلك، ولو ترتب عليها تغيير بيئة عملك، أو كانت ترفع مستوى القلق والتوتر، فإن دفقة من الأدرينالين تحسِّن الذاكرة، وتنشِّط عمليات المخ، وتحميه من الضمور. تذكَّر جيدًا أن فاقد النظر كل الأراضي الجديدة عنده أرض واحدة ما لم يمتلك نظرة جديدة.