إبراهيم بن جلال فضلون
«العثمانيون قومٌ بلا حضارة».. ما رأي التاريخ في هذا الزعم؟، لقد غيرت القاهرة اسم شارع «سليم الأول» بمنطقة «الزيتون»، بناءً على دراسة تاريخية أكدت أنه «قتل آلاف المصريين وأعدم آخر سلاطينها»، وهل تعلمون أن التركي فخري باشا قام عام 1916 بجريمة أشنع من سابقتها بحق أهل المدينة النبوية فسرق أموالهم وقام بخطفهم وجعلهم يركبون قطارات إلى الشام واسطنبول برحلة سُميت (سفر برلك)، كما سرق الأتراك أغلب مخطوطات المكتبة المحمودية، وأرسلوها بلادهم. ليترافق كل هذا مع اتهام يُلاحق أنقرة لإبادة قوات الخلافة للأرمن قديمًا.. فهؤلاء أجداد أردوغان وتاريخهم مع المسلمين العرب، فهل هذا ما تبقى من ميراث العثمانيين كي يلاحق أحفادهم للأبد؟
ورغم أنّ التاريخ العثماني في العالم العربي مدوّن ومُتاح لعموم الباحثين، إلا أنّ الإشكال وقع لناحية تأخر الاشتغال السياسي إبان استقلال الدول العربية، حتى تعدّدت روايات هذا التاريخ (المؤدلج - المقولب دينياً، أو أسطورياً)، إلى تعدّد الجهات التي صاغته، أولها أطراف كانت محسوبة على العثمانيين أنفسهم، ليأتي تيار الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) كعادتهم بترويج ما لم يُقدمه الرجل المريض «السلطنة العثمانية»، التي عجزت عن تقديم رؤية حضارية للأحداث، حيث حالفهم الإخفاق. وهو ما دفع أردوغان لتبني مشروع الإخوان المسلمون، اعتقاداً منه أن ذلك سيمكِّنه من إعادة فرض هيمنته -ولو بشكل غير مباشر- على عموم العالم العربي، كما تفعل إيران مع الجماعات الشيعية.
أجل، لقد لزم إعادة الحق التاريخي لمن وقعت بهم المظالم العثمانية، بعد ترويج كثير من مغالطاتهم داخل الشارع العربي، وعبر مناهجهم التعليمية رافضين حتى الآن، الخروج من العبء التاريخي، وتجاوز قرن 19 ومطلع قرن 20، عاجزين عن التصالح مع ذواتهم أولاً، ومع تاريخهم، ومُحيطهم.. عاجزين عن الإقرار بمجازرهم وانتهاكاتهم الواسعة، بل ونكاية لوسم عربي أطلقه مُغردون عرب شُرفاء «كلنا عبدالله بن زايد»، خرج العثمانيون الجُدد عن طورهم فغيروا اسم الشارع الذي تقع فيه سفارة الإمارات إلى شارع فخري باشا نكاية بوزير الخارجية الإماراتي كرد فعل أولي لمجرد إعادة تغريدة، حولها أردوغان إلى مُحاكمة للتاريخ بين حضارتين وشعبين دون وعي بحقائق الأمور؛ ليصل من ذروة السقوط الأخلاقي إلى الجرأة على طرح سؤال: من هم أجدادكم، وأين كانوا يوم كان أجدادي يدافعون عن المدينة المنورة ضد جحافل الاحتلال؟ فمن يُنكر أن مدينة المُصطفى كانت تقاوم كتائب الاستعمار الأوروبي الزاحفة إلى أسوار هذه المدينة لولا بسالة «العصملي» وألوية بني عثمان، وستبقى من حقائق التاريخ التي لا يختلف حولها اثنان أن الخريطة السعودية وحدها، هي الخريطة الوحيدة في كل العالم العربي التي لم يدخلها غازٍ أو مستعمر.
ولعل التعليم في هذا البلد لم يعُد منفصلاً عن التطوّرات السياسية، فالمعارضون يتهمون الحكومة بفرض مناهج تتوافق مع برنامجها الإسلامي المحافظ، فيما عمليّة «تطهير» الجسد التعليمي متواصلة دون هوادة، تُلاحق أنصار «غولن» لتبدأ قصة أسلمة المجتمع عبر مقاعد الدراسة وتعديل مناهجها منذ يوليو 2017 وطالت أكثر من 51 كتابًا مدرسيًا تزامناً مع إطلاق مشروع (دمقرطة المناهج - الإصلاح المتأخر)، وحذف الكثير منها كنظرية داروين على أساس أنها تفسيرات خرافية، وفوق مستوى الطالب الذي ثار قبل المُعلم واحتج المعارضون لتلك الإهانة لذكاء الشعب التركي، وهنا نرى المقصد الحقيقي، وهو تقليص دور اتاتورك والأسس العلمانية التي قامت عليها الدولة التركية، وإلغاء قَسَمِ الصباح (تحية تاتورك) في 2016م، ثُم التوجه للأسلمة لتكون منفذاً لإدراج مشاريع حزب العدالة كإنجازات «البيئة الطبيعية»، وإضافة معارك عثمانية كمعركة «كوت عمارة» ضد الجيش البريطاني في العراق والاحتفال بذكراها في المدارس.
هذه حقائق تاريخية، لا يروق لأردوغان وحزبه، أن يدرسها الأجيال القادمة، لتخرج عليهم الاحتجاجات رافضة لأفكار ودوافع سياسية، شردت آلاف المُعلمين، وكأن (أوردوغان) نيرون عصره، حارقاً وطنه، وهو يعزف على موسيقاه الإخوانية.
وقفة: ستبقى الحقيقة ناصعة على مجرى نهر التاريخ بأن الوجود العثمانلي لأربعة قرون كانت سوادًا وجهلاً، بينما كُنا لأكثر من ثمانية قرون شريطاً مُنافساً للحضارات الإنسانية والمنجز الكوني، فكانت حواضر مكة وبغداد والقاهرة والقيروان محاضن جوهرية لأولئك العلماء الأفذاذ الذين ساهموا في بناء معظم قواعد العلم التطبيقي، وقامت عليه ركائز عصر النهضة الأوروبية، وحتى في ثورة الإرث الإسلامي، انقطع مدد تلك المدارس الإسلامية الخالدة مثلما انطفأت جذوة الباحثين والمُجددين في كل مناحي الخطاب الإسلامي بدخول الخلافة المزعومة.