أ.د.عثمان بن صالح العامر
أذكر قبل أكثر من سبعة عشر عاماً، بادرني ولدي صالح الذي أنهى للتو دراسته في الصف الثالث الابتدائي قائلاً في لحظة صفاء وفضفضة طفولية صادقة: (يبه ها الحين ليش أروح للمدرسة أدرس رابع، خلاص أنا ها الحين أعرف أقرأ واكتب؟).
أثار في ذهني هذا السؤال المفاجئ حواراً عميقاً ظلَّ معي طوال هذه السنوات، مع أنه مجرد تفكير عابر مرَّ في خاطر هذا الصغير فباح به دون أي اعتبار لما سينتج عنه.
قد يكون هذا السؤال حين طرحه (صالح ) عام 1423هـ غير منطقي نسبياً، أو قل سابق لأوانه، ولكنه اليوم في ظل وجود الأجهزة الذكية وانتشارها بل امتلاك الكل - خاصة الصغار - مهارة التعاطي الإبداعي معها، والاستفادة القصوى منها - طبعًا إذا وجد التوجيه الأمثل لهم - أقول إننا في ظل ثورة التقنية والانفجار المعلوماتي التي يسرت بشكل لم يسبق له مثيل الحصول على المعرفة لكل الأجناس والأعمار والأوطان والأديان، أكثر من هذا وجود ما يعرف بالتعليم عن بُعد، والصفوف الافتراضية و... مع كل هذه التغيرات الجوهرية صار السؤال عن فائدة الذهاب للمدرسة أكثر منطقية، ومن المهم بشكل كبير مطارحته والنقاش الواسع حوله.
لابد أن نعرف نحن أولياء الأمور، لماذا نوقظ أولادنا في الصباح الباكر يوم الأحد القادم - بإذن الله - ليذهبوا إلى الصف الذي يجتمع فيه عدد من الطلاب، يختلفون عن بعضهم البعض في الذكاء والتفكير والثقافات والطبائع والسلوكيات؟.
القراءة والكتابة أضحت ليست هدفاً أساسًا للتعليم العام بعد إنهاء الطفل مرحلة الطفولة المبكرة، والحصول على المعلومات انتفت هي الأخرى في ظل وجود السوشيل ميديا، هذا العالم الافتراضي المفتوح بلا حدود أو قيود.. ماذا بقي؟
إن هذه المدارس المفترض فيها - في نظري - أن تكون أولاً محاضن تربوية بامتياز تزرع في النشء أخلاقيات المواطن الصالح وسلوكيات المسلم الحق، وأن تقوم ثانياً باكتشاف ميول وهوايات الصغار ومن ثم تكسب الطالب المهارات اللازمة ليتميز فيما يهوى ويرغب فيبدع ويتفوق، فضلاً عن أنها تدرب الطلاب والطالبات على المهارات الحياتية المختلفة التي تجعلهم جميعاً يخرجون إلى ميادين العمل في مستقبل أعمارهم وهم يمتلكون القاعدة الأساس في التعايش مع الآخر، والتسامح، والتعاون، والتكاتف، والتسالم، ويقدرون قيمة العمل مهما كان يدوياً أو عقلياً، ميدانياً أو مكتبياً، وهذه كلها من (قيم المواطنة الفاعلة) التي أكدت عليها رؤية المملكة 2030، وقبل هذا وذاك على المدرسة أن تجعل الطالب يستخدم المناهج العلمية في حياته، تعلمه كيف يعمل عقله حين يقرأ ويفكر، يحلل ويستنبط، يقارن وينقد بكل حيادية ومصداقية وشفافية ووضوح، سواء أكان ذلك حين يتعامل مع الأفكار، أو يسبر أغوار الأشخاص، أو يقرأ المواقف ويحلل الأحداث.
لقد لفت نظري في زيارتي لدولة فنلندا (التعليمية) عام 1427هـ إجابتهم الدقيقة عن هذا السؤال، ولذلك بعد تجاوز الطالب الصف الثالث في مرحلة التعليم الإلزامي ينمون عنده مهارة (التقييم الذاتي) ويكتشفون ميوله (مهنية، عقلية) ومن خامس يبدأ الكل يدخلون ورشة المدرسة التي تضم جميع متطلبات المهن المختلفة وفيها كل ما يخطر على بالك من مستلزمات هذه المهن، وذلك من أجل اكتساب صغارهم مهارات هذه المهن الأساسية، مع تركيزهم الشديد على من أظهر التقويم ضعفهم العلمي وتميزهم المهاري في الحرف والأعمال اليدوية، ومتى ما أنهى الطالب التعليم الذي ينعت عندهم بالإلزامي وتخرج في الصف التاسع يتجه لما كان مسجل في سجله الدراسي من خلال الرصد والمتابعة الدقيقة طوال هذه السنوات، فيتخصص مثلاً في الإعلام، النجارة، القضاء، التدريس، السياسة، الاقتصاد و...
أتمنى أن نحدد نحن (لماذا المدرسة؟)، ونعمل على جعلها جاذبة، وتملك الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال الكبير، فليس ما اعتدنا على ترداده فيما مضى صالح لأن نكرره اليوم، وقد يأتي زمن تفتح فيه مدارس افتراضية في التعليم العام عبر الشبكة العنكبوتية ويعترف بما تمنحه من شهادات إلكترونية ومن ثم يعزف عنا جيل الغد ولا نجد من يرغب بشهاداتنا الورقية. دمتم بخير، وتقبلوا صادق الود، وإلى لقاء والسلام.