محمد سليمان العنقري
بعد أن استردت الأسواق المالية عافيتها في الأسبوع قبل الماضي مع تصريحات إيجابية حول تأجيل فرض رسوم تجارية من أمريكا على الصين، وإمكانية إلغاء ما قُرر سابقًا، استفاقت من جديد على صدمة لم تكن متوقعة؛ إذ تحركت الصين هذه المرة، واتخذت إجراءات انتقامية ضد أمريكا بنهاية الأسبوع الماضي، وفرضت رسومًا على بضائع أمريكية، تصدر للسوق الصيني، تبلغ قيمتها 75 مليار دولار؛ ليأتي الرد سريعًا بعد أن أقفلت الأسواق المالية بنهاية الأسبوع من قِبل أمريكا؛ إذ فرضت رسومًا بنسبة 15 % على بضائع صينية، يقدر حجمها بنحو 300 مليار دولار. ولكن اللافت في القرار أنها بأثر رجعي؛ وهو ما يعني أننا أمام فصل جديد من هذه الحرب التجارية الضخمة والخطيرة بأبعادها على الاقتصاد العالمي.
فمن الواضح أن هذه الحرب بدأت تصل إلى مراحل «كسر العظام»، وأن أي مفاوضات قادمة ستكون ملتهبة جدًّا، وستعتمد على من سيرضخ بنهاية المطاف، وخصوصًا أن الرئيس الأمريكي يطلق تصريحات تعبِّر بمضمونها عن أن الصين عدو، وأنه من سيقود الحرب التجارية ضدها التي يرى أنها تأخرت، وكان يجب أن يخوضها الرؤساء الأمريكيون الذين سبقوه. وبالرغم من التحذيرات من أنها ستكون من أهم الأسباب لوقوع ركود اقتصادي بالدولتين، بل عالميًّا، لكن هناك إصرارًا أمريكيًّا على الاستمرار بها. فماذا تُخفي هذه الحرب؟ ولماذا أتت بهذا التوقيت؟ إذ كان العالم - وما زال - يكافح من أجل الحفاظ على نمو اقتصادي جيد، والتخلص تمامًا من آثار الأزمة المالية العالمية في 2008م.
إن أكثر ما يلفت النظر بهذه الحرب التجارية التي شنتها أمريكا على الصين، وبدأت بدون مقدمات، وطالت في البداية بعض الدول الشريكة تجاريًّا لأمريكا، وانتهت سريعًا باتفاقيات جديدة بينهم، أنها ترمي في ظاهر أهدافها إلى تقليص العجز التجاري لأمريكا مع العالم، لكن هناك تساؤلات تفرض نفسها حول بواطن الضعف والخلل التي أُصيب بها جسد الاقتصاد الأمريكي بعد الأزمة المالية الكبرى قبل عشرة أعوام، وبالتأكيد إنها خلفت أوضاعًا سيصعب على أمريكا أن تحافظ على مركزها بوصفها أكبر اقتصاد عالمي بسببها، وكذلك الحفاظ على مكانة الدولار كعملة الاحتياط الأولى بالعالم، التي تسعر بها السلع كافة عالميًّا، وأهمها النفط، وأيضًا موقف العالم من تزايد الدَّين السيادي الأمريكي الذي يقارب أو يزيد بقليل على حجم ناتجها الإجمالي؛ وهو ما يعني أن هذه الحرب مع المنافس الأول لأمريكا على عرش الاقتصاد العالمي «الصين» ليست إلا مواجهة مبكرة قبل أن تفقد أمريكا مركزها الأول لصالح الصين، وليس المقصود بها العجز التجاري أو أي هدف أو سبب مما أُعلن؛ لأن جميعها من الممكن التعامل معها بطرق مختلفة لمعالجتها إذا كانت تعدُّ خللاً يستحق المعالجة.
قيل للرئيس ترامب إن الرسوم على السلع المستوردة من الصين ليست الحل لمعالجة العجز؛ فالمستهلك الأمريكي لهذه السلع سيدفع هذه الرسوم في نهاية المطاف، لكن في السياسة يبدو أن هناك ما هو أبعد من النظرة الاقتصادية، وأن تحرك أمريكا بهذه الصورة والحجم له دوافع تقترب لحد تهديد الوجود لهذا الاتحاد الفيدرالي لخمسين ولاية تأسست ككيان بوضعه الحالي منذ ثلاثة قرون؛ فالصين اليوم باتت تمثل تهديدًا كبيرًا لمستقبل أمريكا ومرتكزات اتحادها.. فمن سيصمد وينتصر في نهاية هذه المعركة؟