د. إبراهيم بن محمد الشتوي
بعيداً عن المعنى اللغوي لكلمة «نص»، وعن المعاني الاصطلاحية المتعدِّدة لها، فإن الدارسين قد درجوا على أن ينظروا إلى «النص» نظرة إكبار، وإجلال، باعتباره المستوى الأعلى الذي يصل إليه «الكلام»، فيجعله جديراً بالدرس، والنظر والتأمل، تقوم حوله الدراسات، ويستعان على فهمه بالشروح وأقوال الراسخين في العلم.
والسؤال الذي يبدو لي أنه لم يطرح من قبل، هو هل هناك حالة يفقد معها «الكلام» «النص» هذه السمة الجوهرية ليعود إلى حالته الأولى ويصبح «النص»، بالمفهوم الذي يحاول عبد الفتاح كيليطو أن يبينه، بمعنى كلاماً عادياً لا تتجاوز قيمته وظيفته الآنية؟
تحدث القدماء عن «الابتذال»، ويقصدون به كثرة استعمال الكلمة ودورانها على الألسنة حتى تفقد معناها الخاص الذي يجعلها ذات أثر في النفس، ويحصرها في ألسنة فئة من المتعلمين، وأهل الأدب لأن تكون على ألسنة السوقة والعامة، ومن في حكمهم، فلا يعود لاستعمالها أدنى مزية.
وهو مصطلح -كما يبدو- خاص في اللفظ، وإن كان إبراهيم فتحي يطلقه على الموضوع، فيعرِّفه بأنه أخذ «موضوع مهم عالي القدر بطريقة مازحة عابثة أو باعتباره شيئاً مبتذلاً عادياً تافهاً».
بيد أن القيرواني، وهذا هو المهم، ينقل المفهوم السابق إلى «النص»، فيرى أن كثرة استعماله، قد تجعله ممجوجاً لدى السامع، وتنزل درجته من المستوى الأعلى للكلام إلى إلحاقه بما لا يؤثّر بالنفوس والعقول، وهو المعنى الذي يتفق مع ما ذكرناه من قبل عن «الابتذال».
يقول القيرواني في مقدمة كتابه زهر الآداب، وهو يتحدث عن منهجه في التأليف: «أدعى إلى الاستحسان مما مجته النفوس لطول تكراره، ولفظته العقول لكثرة استمراره»، وهو ما يعني أن الاستعمال الطويل للنص، ومعرفة الجاهل والعالم به، ومروره على ألسنة الجميع تنقص من قدره، وتزيل ما فيه من تميز وخصوصية، ولأن النفوس تفقد تأثرها به لمعرفتها السابقة به، فإنه لا يعود كسابق عهده، ولا يحوز الاستحسان.
وهذا شبيه بما روي عن أبي العلاء في شعر أبي تمام، أنه يقول: «إنما أغلق شعر الطائي أنه لم يؤثر عنه، فتناقلته الضعفة من الرواة، والجهلة من الناسخين، فبدلوا الحركة بالحركة، فأوقعوا الناظر بما جنوه في أم أدراص وتغلس».
ومقصد أبي العلاء أنه - الشعر- أغلق على القراء، والمتلقين فلم يعد صالحاً لذلك، بما أصاب معانيه من الفساد بناء على اختلاف الروايات، باختلاف الضبط، أو اختلاف الحروف المتشابهة، ما جعله بحاجة إلى تمحيص، وغربلة، وطول نظر حتى يخرج القارئ بالمعنى الصحيح، ويتحقق من نسبته لأبي تمام عوضاً عن أن تكون من صنع من وصفهم بـ»الضعفة من الرواة»، و»الجهلة من الناسخين»، وهو ما يحول بينه وبين القراء، ويجعل تأثيره محدوداً.
وقريب من هذا -في رأيي- القول في شعر أبي الطيب المتنبي، فهو وإن لم يكن قد اختلطت رواياته، كما هو الحال في شعر أبي تمام كما يقول المعري، فقد اشتهر بين الناس شهرة كبيرة حتى أصبح على كل لسان، وصارت أبياته المادة المفضلة لكل من رغب بالاستشهاد والتمثل أو إظهار الثقافة الأدبية، وأولع به أهل الوجاهة والسلطان، وأقبلوا عليه يدرسونه، ويستشرحونه من العلماء، وهذا سبب كثرة شروحه وإقبال الشراح عليه
هذا الانتشار والإقبال عليه، أصابه أولاً بما وصفه القيرواني «مجته النفوس لطول تكراره»، فلا ينشط السامع حين يسمع بيتاً من أبياته لأنه قد سمعه من قبل في صباه، وعرفه، ولم يعد له أو لمعرفته مزية على سواه، كما أن أثره في نفسه يكون قد انمحى لكثيرة ما سمعه، وجال في خاطره، وثانياً لأن معانيه قد استهلكت بكثرة شرحه وتقليبه على الوجوه المختلفة حتى لم يعد فيه موضعاً لناظر أو متأمل، ولأن «المستعملين» -إن صح التعبير- قد استعملوه في المواضع المختلفة حتى لم تعد له دلالة واحدة، وإنما أصبح يستحضر في كل حال، ويطبق في كل موقف، دون أن تكون هذه التوظيفات منطلقة من قراءة نقدية ذات تأصيل علمي صحيح، وهو ما أفقده خصوصية الأدب الراقي، المحصور بفئة المتأدبين، أو معاهد الدرس، ويجعله مبتذلاً لكل من رغب في قراءة الأدب، وحفظ شيئاً من المعرفة، يحمله معانيه، ويمنحه تأويلاته، منتشراً في مجالس العامة، والسوقة كما هو حال الألفاظ المبتذلة التي تفقد وهجها الفني وتأثيرها على السامع، ومن ثم يفقد فضاءه الدلالي الذي يتحرك فيه.
هذه النظرة لشعر الحبيبين (على التغليب حبيب بن أوس، وأبي الطيب) كانت تقابلنا منذ أن كنا طلاباً في الجامعة بدعوى أن هذين الشاعرين قد استهلكا الدرس الأدبي منذ المرحلة الابتدائية وما بعدها، وكأنه لا يوجد سوى هذين الشاعرين، وقصيدتيهما (البائية والميمية)، فتدرسان في الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والجامعة، يدرسهما المتخصصون وسواهم.
والذي لم يكن في الحسبان أنهما بالقدر الذي استهلكا الدرس الأدبي، فإن الدرس الأدبي أيضاً استهلكهما، فحولهما إلى مكون من مكونات الثقافة الشعبية، تنعكس عليهما مؤثرات العامة، ونظرتهم ومكوناتهم الفكرية، ما أفقدهما خصوصية الأدب العالي، وهو ما عناه أبو العلاء فيما نقل من قوله عن حبيب.