وماذا يعني أن أكون في السبعين وهي في الستين؟! سيتحدَّث الناس عن هذا الشيخ المتصابي، لا يهم؛ فليقولوا ما يقولون؛ إنني أستعيد عمري الضائع، وحبي المسلوب، وأثأر من الحرمان، أعلم أنه لم يبقَ مني سوى الكلام؛ ألا يكفيها هذا؟! سأحكي لها ما لم يسعفنا الوقت لنقوله في آخر لقاء. سأحكي لها الحكايات التي أرجأتها؛ لديَّ رصيد من الحكايات التي كتمتها في صدري، وطالما استعدتُ بعضها من على طرف لساني لأنها لا تليقُ إلا بأذنيها.
ستسمعني بشغف؛ كما كانت في تلك الليالي التي قضيناها إلى جوار البيت القديم؛ عندما ينتصف الليل، ويَحِلُّ السكون جنبات القرية تتسلَّل من نافذة غرفتها فتجدني بانتظارها، ويمضي الليل وأنا أضفِّرُ لها الحكايات، وأستمع لأقاصيصها. ربما سمعنا حركة فصمتنا، وحين تخاف فجأة تقترب مني؛ فأشعرُ بدفئها، ثم تنتبه فتتراجع قليلًا.
في الليلة الأخيرة تعاهدنا على الوفاء والانتظار؛ عاهدتها أن أسعى للوظيفة من الغد، وأن أجمع مهرها في سنة واحدة وأعود فأتزوجها وأرتحل بها إلى العاصمة، وعاهدتني ألا تتزوج ابن عمها الذي ارتحل إلى المدينة للسبب نفسه.
سأحكي لها أني غادرتُ البلدة في صبيحة اليوم التالي، إلى مدينة صغيرة فيها تتوافر سيارات تنقل المسافرين إلى العاصمة، لم تكن سيارة؛ كانت شاحنة، مكشوفة. في الليل كنا نوغلُ في الصحراء؛ يلفُّنا الظلام إلا من أنوار الشاحنة التي تاهت في فضاء دامس لا تبدو له نهاية.
توسدتُ حقيبتي، وتمددت على ظهري، وقد لففتُ رباطها على يدي، مخافةَ أن تمتد إليها أيدي المسافرين، وبيدي الأخرى تشبثتُ بأعمدة الشاحنة أُقاوم اهتزازاتها المتكررة. لم أجد أي حماس لتبادل الحديث مع رفقاء الرحلة، أغمضتُ عينيَّ، لعل النوم يتسرب إليَّ فينجيني من وحشة الليل، والصحراء، والغربة، وفراق حبيبتي، عاندني النوم أول الأمر، ولولا أن أحلامًا طافت بي لما صدقتُ أني نمت، وحين فتحتُ عينيَّ رأيت القمر قد ارتفع؛ لم أجد فيه ما عهدتُه من أنس، فقد بدا قمرًا غريبًا عني، كان أشد توهجًا ولكنه لا يشبهُ القمر الذي كان يؤنسنا في ليالي القرية.
ترى هل راقبت القمر تلك الليلة؟ توهمتها تنظر إليه من نافذتها كما أنظر إليه أنا من فوق شاحنة تهيم في الصحراء، شعرتُ أنها تشاركني النظر إليه، شعرتُ بخدرٍ في صدري، وأنستُ بالقمر شيئًا فشيئًا، فهو رفيقُ ليالينا التي ملأناها بالحكايات، والأحلام؛ سيراني على غير ما عهدني؛ وحيدًا غريبًا في هذه الصحراء الموحشة، غمرتني سكينة بعد أن أطلتُ النظر إليه. تخيلتها تنظر إليه، وتشتاق إليَّ، وتتذكر ليالينا التي تمضي سريعًا؛ وتتذوق قبلتي التي اختلستها على غفلة منها لحظة الوداع؛ سأخبرها أنني كنتُ أعلم أنها تظاهرت بالغفلة لأتذوق منها ما يشدني إليها في غربتي، أرادتها زادًا لرحلتي التي قدرتُها بعام، وامتدتْ أربعين سنة.
سأحكي لها عن الندم الذي انسكب كالسديم فملأ نفسي ضجرًا، فتمنيت أني أستطيع العودة، والنكوص عن رحلة التيه هذه؛ ولكن ذلك أمرٌ مستحيل، فلا شاحنة النقل ستعود، ولا أحد سيسمع رجائي، سأكون أضحوكة لهؤلاء المسافرين الثقلاء؛ وما يدريني لعلَّ فيهم من هو أشدُّ حزنًا مني. سأغني لها الأغنية التي كررها الركاب حتى شعرتُ بالغثيان، لثقل أصواتهم الرديئة؛ التي اختلطت بالعجز الذي كبَّلني على ظهر الشاحنة، والهزيمة التي أذعنتُ لها.
لم أعرف تلك الوحشة من قبل، اعترتني كآبة تمددت في أوصالي؛ أردتُ أن أبكي، لم تطاوعني الدموع، ولا واتاني البكاء، أظلمتْ نفسي كهذا الليل، وامتد الفراغ في صدري كهذه الصحراء، وملأ الوهنُ روحي حتى لم أعد أشعر بشيء.
سأخبرها أنني لم أحقد عليها فقد بلغني مع خبر زواجها ما تعرَضَتْ له من الضرب، والحبس والتجويع، لم أعجب لرضوخها؛ فهل تصمد وهي كفراشة رقيقة أمام إعصار والدها وابن العم. سأحكي لها عن الكآبة التي انتابتني، وشعور الإحباط الذي لوَّن حياتي بالسواد، حتى كرهت بلدتنا وعزمت ألا أعود. سأخبرها أنها لم تغب عن بالي طوال الأربعين سنة التي فرَّقتنا، وأن سماع اسمها ما زال يهزني، ويربكني، حتى اليوم.
سأقول لها : لقد هوى السور الذي قام بيننا أربعين سنة؛ وأصبحَ بوسعنا أن نعيد مجرى حياتنا إلى درب واحد، يأخذنا فيما تبقى لنا من عمر، فقط لنكمل حكاياتنا التي انقطعت منذ أربعين سنة؛ لا يشغلنا عن الكلام شاغل. سأحدثها همسًا، فما زال جرس صوتها الهامس يتردد في أذني. سأقترح عليها أن نقضي بعض الوقت في قريتنا، لنتأمل ما بقي من معالم القرية وطرقاتها، ونسترجع ما فات من دهشة ليالينا، ونجلس بجوار الجدار القديم، ونتذكر. سأحكي لها ما كان يتناهى إلى سمعي من أخبارها، وما تركته تلك الأخبار من ندبات في روحي لا تُمحى، لن أصمت عن الكلام حتى يغلبني أو يغلبها النوم فيميل كلٌ منا على وسادته وينام.
بينما تصطرع الهواجس في داخله، وأمنية اللقاء تحتدم وتعظم خطر له ما قد تكون فعلت بها السنوات؛ فربما لم تعد شفتاها رقيقتين مستديرتين كخاتم؛ تنزلق من بينهما الكلمات كعصافير تغادر أعشاشها. حاول مواجهة هذا الخاطر بأن بصره لم يعد يُسعفه ليُميز بين الشفاه الناعمة أو الخشنة، ولكنه سيراها بذاكرته كما كانت. وإن حدثته بحروف متداخلة، مضطربة، فسيسمع صوتها القديم. ثم إنها هي أيضاً لن تجد ذلك الشاب الممشوق كسيف، والمرهف كطائر، ولكنها ستجدُ قلبه، وإحساسه، وذاكرته، وحبَّه. ففي ليالي عشقهما المقمرة لم يظفر منها إلا بحكايات كثيرة، وقبلة لذيذة، وعناق شهي، وعليها اليوم أن ترضى منه بمثل ذلك.
سأتزوجها انتقامًا من أبيها، ومن زوجها الذي حال بيني وبينها أربعين سنة، سأخبر أولادي أنها حبي القديم، الذي دفنْته أربعين سنة، وها هو يُبعثُ حيًا لحظة دَفْنِ زوجها؛ لم يتغير ذلك الحب، ولا ذبلت تلك الأحلام، ولا نسيتُ لذة تلك القبلة، ما زلت أتلمظها، وقد آن لها أن تُبعثَ على شفاهنا من جديد.
كم هي ثقيلة هذه الأربعةُ الأشهر والعشرة الأيام، إنها أطول من سنوات التيه الأربعين؛ تُرى هل يمتد بي العمر حتى أستعيد حبيبتي، وأعلنَ انتصاري على والدها، وزوجها، والفقر، والغربة، والزمن. لقد ذهب من العمر أربعون سنة بلا اتجاه، فيا رب امنحني ما يكفي لأقص عليها كلَّ ما لديَّ من الحكايات.
لم يعد يشعر بشيء من حوله، تتراءى له حركة الناس ولا يكاد يبصرهم، تلفَّتَ فلم يجد أحدًا، فقد فرغ الناس من دفن المتوفىَ، وانصرفوا. جثم على صدره صمت المقبرة، فأطرق على عكازه الغليظ، يُحدِّق في الأرض ولا يرى شيئًا؛ انقطعَ شلال الذكريات حين أحس يدًا تقبض على كتفه، فانتفض ورفع رأسه، حاول النهوض فلم يستطع، ساعده ابنه على القيام؛ وقد رأى على ملامحه الدهشة والذعر، فها هم رفاقه يتساقطون واحدًا تلو الآخر؛ فلا عجب أن يتأثر إلى هذا الحد لموت رجل من أبناء قريته، وفي مثل سنه. قبَّل يده، واتجه به نحو بوابة المقبرة، التفتَ نحو القبر، يتمنى لو سأل الميِّت : هل كان يعلم أنه اغتال حبَّه، وبدَّدَ أحلامه، وسرق عمره؟! خطرَ له أنه الآن يواجه أسئلةً أصعب؛ زمَّ شفتيه وخطا نحو باب المقبرة، يتهادى بين ذراع ابنه والعكاز.
المفارقة وجوهر الوجود:
قراءة في قصة (ثورة حب)
أ.د. محمد صالح الشنطي
ثورة حب، هذا العنوان الذي ينهض على المفارقة التي يجتمع على صعيدها ما يومئ إلى الرقة والجمال من ناحية، وما يشير إلى العنف والاندفاع من ناحية أخرى، وهذه المفارقة مفتاح الدلالة في النص تفتح آفاق التأويل وتستكشف فضاءات الجمال، ولعل الزمن هو الإطار الذي تتشابك فيه العلائق مشكّلة آفاق النص، وهو الثيمة الرئيسة التي تتفرع منها بنيات التكوين في القصة، فمحور القصة حركة الزمن، وهي هنا حركة دائرية تبدأ من نقطة وتنتهي إليها، وعلى محيطها تتدفق الأحداث مجدولة في مسار واحد ينتهي بصاحبه إلى الانطفاء بعد أن ذبل فتيل شمعة الحياة.
جماليات القصة تحتشد في بؤرة المفارقة الأولى، الزمن هو البطل الذي يأبى أن يغادر الميدان، هو الحضور والغياب، الأمل واليأس، الوجود والعدم، تتناثر إشاراته ودلالاته السيميائية على مساحة النص، فالسارد البطل في السبعين، وحكاياته تتناثر على محيط الدائرة السبعينية، يلمّ! شتاتها في إضمامة من الحكايات على أمل روايتها ثانية للمحبوبة القديمة، فهي آخر ما تبقى له من رصيد في شيخوخته الذابلة؛ كان غياب زوجها سببًا في إعادة
حضورها ثانية إلى حياة السارد، فالموت - هنا - حياة جديدة، وجدلية الحضور والغياب جدلية تمثل عصبَ الحدث في هذه القصة؛ فزمن القصة تحتشد به ذاكرة السارد على مدى سبعين عامًا وتبقى حاضرة حية رغم مفارقة الغياب التي جاءت بعد طول حضور عبر الشرفة التي تبدو وكأنها منصة يطل عبرها الوجود كلُّه، وتتمثل هذه الجدلية ابتداء في سلسلة من المحطات المكانية ابتداء من النافذة الضيقة إلى زوايا الجدار التي كان يأوي إليها الحبيبان ويتعاهدان على الوفاء.
سار الزمن في اتجاهين في القصة، الاتجاه الأول : السعي لتحقيق الحلم ويتمثل في السفر من أجل الحصول على وظيفة، والاتجاه الثاني الزواج من الآخر الذي أُجبِرَتْ على الاقتران به قسرًا؛ أي فَقْدُ الحلم والمفارقة تكمن في التقاء الخطين المتوازيين المتمثلين في موت الزوج وعودة حلم اللقاء، وهنا تولد مفارقة أخرى تتمثل في حرمانٍ من نوع آخر؛ ففي اللحظة التي يعود فيها الأمل تتلاشى القدرة على الزواج ولا يبقى له منها إلا الحكايات القديمة، فالحكي هنا بديل الحرمان والذاكرة مستودع الحياة.
السفر في شاحنة عبر الصحراء، الارتحال عبر الشاحنة ومراقبة القمر تجسيد فني يقابل التوق الأزلي الذي يستحيل حلمًا صعب التحقيق، فالقمر الذي يرنو إليه السارد هو الحبيب الذي يتوسل إليه بالسفر عبر الصحراء، يبدو القمر موغلًا في البعد كما المحبوبة كلما ترامت الطريق أمام الحبيب المسافر كلما أوغل في البعد عنها والحرمان منها، وفي مقابل هذه المشقة والإيغال في التيه وانعدام القدرة على العودة الذي عانى منه السارد العاشق، على الطرف الآخر ضربٌ وحبسٌ وتجويعٌ وضيمٌ وقع على المعشوقة لترضخ لرغبة ذويها في تزويجها من الآخر الذي صادر الحلم.
مسيرتان متوازيتان متماثلتان ومتغايرتان، وهنا تبلغ المفارقة مداها حين يجمع بينهما حلم اللقاء ثانية في خضم الغياب : غياب الآخر الراحل وحضور الأمل الذي يتماهى بدوره في الغياب.
سلسلة من الثنائيات هي التي جعلت من المفارقة بؤرة جمالية تستقطب خيوط القصة في نسيجها المحكم، فثمة حلم وواقع يفضيان إلى حرمان طويل يمتد إلى أربعين عامًا، وثمة خيال وحقيقة يبتدئ بهما المشوار وينتهي، فالواقع الذي تقادم حين كانت الألوان وردية مستمدة من جمال ماثل في سكينة الليل وضوء القمر يتحول إلى خيال مزعج حين أشرقت الآمال من جديد وطلعت شمس الحلم من مغربها، فإذا بالسارد يتخيل معشوقته وقد حال حالها وعبثت السنون بجمالها فتخيلها عجوزًا ؛ ولكنَّه التمس في قلبها جمالًا آخر صنعه بخياله، ثمة مكان ضيق في مساحته رحب في اتساعه، وهو مكان اللقاء قرب الجدار، ومكان رحب في اتساعه ضيق في معاناته ذلك هو طريق السفر عبر الصحراء ومن ثم المدينة والقرية في رحلة التيه، ثمة سكونٌ ضاجٌ بالآمال زاخرٌ بالأمنيات وحركةٌ تسري في أوصالها برودةُ الموت وسكون الإذعان، ذلكم هو السفر على متن الشاحنة التي تمخر عباب القفار في رحلة الضياع والفقد، ثمة زمانٌ كونيٌ حافلٌ بحلكة الإحباط واليأس في ليل بهيم، ومكانٌ تترامى في أمدائه الصحراء، أحلام بائسة ويقظة موجعة، شكٌ ويقين، هزيمة وانتصار، وخاتمة تتصادى في آفاقها أصوات خافتة تحمل خطواتٍ متخاذلةً تؤوبُ من مستقر الموت إلى قلق الحياة، وهنا تنفتح النهاية على سرداب لا يقود إلا إلى جدلية جديدة يكون الغياب فيها خاتمة المطاف.
قصة جميلة : لمسة إنسانية، وعمق فلسفي، وتأمل في مغزى الوجود والعدم، والحياة والموت، والأمل واليأس، ومفارقات الحياة.
** **
- إبراهيم مضواح الألمعي