عبدالمحسن بن علي المطلق
نحن العرب لدينا حديّة شبه متجذّرة في النقاش، وربما التعصب للرأي الذي قلَّ ما يحيد عنه صاحبه (ظنًا المسكين أن التنازل لرأي الآخر هو هزيمة) وليست تسليمًا للصواب الذي هو غرض الأطراف ومناط المطلوب من كل جانب.
لكن.. لهذا سببه أنهم - العرب- بضاعتهم الكلام، إذ من تزويقهم ومهارة ما بلغوه أنهم جعلوا لهذا سوقًا، بل هي أسواق ومواسم يأُمّ تلقاءها كل من وجد في ملكاته ما يسوّغ له أن يبارز، ويُشدّ لمرابعها الرحال من كل فجّ .. بالذات الشعر الذي في فلكه إبداعهم، ونفيس عطائهم، ثمّ أُلحق النثر أيضًا، لذات المضمار.. - لكنه دون ذاك درجةً-
ومن هنا تجد الجدال في الغالب يطول وقلَّ ما ينتهي إلى وضع مرضٍ من الأطراف كافة - في.. حال تعدد الآراء-
والسبب أننا نضع الكبرياء في غير مكانها..
فالكبير لا يسلّم للصغير بسبب صغر سنه لا لوجاهة رأيه مع أن من يأخذ بأدب القرآن إلا واستقام بعض غرره، بالذات حال التدبّر: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ..}، كذا شيّع إبراهيم عليه السلام خطاب دعوته لأبيه..
كما وتجد أن المستضعف يستسلم لكلام المهيمن لا بسبب إقتناع منه!، لكنّ للمهابة مع الخوف المسكون بداخله.. دورها
وكذا تجد الحال ذاتها السيد مع مخدومة
والأب مع ابنه بل حتى الأستاذ مع تلميذه..
فمما لا يخفى غيظ «بشار بن برد» يوم أنشأ:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فعمد «سلم الخاسر» إلى البيت وصاغه هكذا:
من راقب الناس مات غماً
وفاز باللذة الجسور
هنا اعترف «بشار» أن /سار والله بقيت (بيت) سلم.. وخمل بيتنا. وكان كذلك
إذ لهج الناس بيت سلم وصار مثلاً من الأمثال السائرة..) الخ.
وقبل وضع النقاط التي لدي على حروف ما أراها أسبابًا للالتباس الحادث، أورد علّة ينمّق لها.. بعض من تحذلق في تسويغ مجمل ذاك بالقول:
(..بين منطوق لم يُقصَد، ومقصود لم يُنطَق، تضيع الكثير من المحبة..)
«جبران خليل جبران»
نعود لتجلية ذلك، أنه يعود أسبابًا لثلاث/
- قد لا يكون عن قناعة بصواب ما قال به لكن (ثقيل عليه التراجع، أو الإقرار بصوب رأي من يجادله).
- قد يظن أن المعلومة التي بنى عليها رأيه أوثق مما لدى صاحبه.
ولا ننسى حظ النفس (من أنها أحسنت الاختيار) في ما اتكأت عليه من المعلومة التي يعوّل عليها بالتالي صواب رأي ما ذهب إليه.
- إن المعلومة الأولى التي يتلقاها المرء تأخذ أكثر مساحة لديه من أي معلومة تستجد عليه.
والدليل أن أصحاب الديانات الأخرى قلما يراجعون ما هم فيه بداعي صواب ما تلقوه في النشء من العمر..
ولا شك..!
فالعلم في الصغر...كالنقش على الحجر
والعلم في الكبر...كالنقش على البحر..
أي أن أدنى حركة تميد بسطح مائه تتغير معالمه!
فثقيل جدًا على من علم شيئًا ثم بنى عليه أشياء أن يسلّم لمخالف ما ترسّخ لديه ولو ترجّح له صواب ما بُلغ.. بالذات ما أقام عليه عمر قيام عسيب، أو كما أخنى على لُبدِ.
ولعل هذا وجه من وجوه الكِبر الذي يضيّع بعض فئام (ردّت) الحق جهارًا نهارًا..!
كما جلّت الآية {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ}
عياذًا بالله، فآثر ظلاله القديم على النور الذي شعّ قبسه، فانتشر - بعدُ-معالمه وبلغ تريد صداه مجلجلاً.. في الآفاق
ولذلك وهذا جدير التنويه له /
تمعّن أن أكثر من قبل الإسلام هم الرعيل من أولئك الشباب الذين لازالت عقولهم نقيّةً من ترسبات الجاهلية الأولى.
ثم لاحظ أن الإسلام حين هيمنة تعاليمة وبدأ الحق يعطي أكله من العدل والمساوة وتنظيف القلوب قبل الأجساد، دخل الناس في دين الله أفواجًا.