د.سالم الكتبي
تشير التصريحات التي يدلي بها قادة النظام الإيراني في الآونة الأخيرة إلى ما يبدو أنه إفراط بلغ حد الغرور في الثقة بالنفس! ورغم أن الاستعلاء والغطرسة سمتان أساسيتان في رؤية نظام الملالي للعالم من حوله، فإن الأمور هذه الأيام قد فاقت المستويات المتعارف عليها من الغرور الذي يصطبغ بصبغة هوياتية قومية اعتمادًا على قراءة مبتورة للتسلسل الزمني للأحداث في منطقة الخليج العربي خلال الفترة الماضية.
ويرى الملالي أن صمت إدارة الرئيس ترامب عن الرد عسكريًّا على إسقاط الطائرة من دون طيار يمثل خوفًا من تبعات الرد، ونجاح لسياسة الملالي في بناء معادلة توازن رعب جديدة في مواجهة القوة العسكرية الأمريكية. وهذه مسألة لا يمكن لأي باحث مبتدئ في العلوم العسكرية سوى الاستهزاء بها في ظل الخلل الهائل في موازين القوى العسكرية بين الجانبين الأمريكي والإيراني؛ إذ يكمن التفسير برغبة الرئيس ترامب في تحقيق انتصار غير مسبوق باستخدام أداة العقوبات الاقتصادية بمفردها، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة، والملالي يدركون ذلك جيدًا، ويعرفون أيضًا أن أثر العقوبات التي يصفونها بحرب اقتصادية مدمرة يفوق تأثير العمليات العسكرية، ولكنهم يستخدمون الدعاية جيدًا لإظهار تماسك النظام وقوته في تحمُّل العقوبات رغم أن تصرفاتهم وسلوكياتهم الانفعالية المتوترة توحي بأن استراتيجية ترامب تحقق نتائج جيدة، وتمضي في المسار المرسوم لها.
إحدى الإشكاليات التي يعاني منها نظام الملالي أن هناك خلطًا في الأدوار بين السياسيين والعسكريين؛ فتجد - على سبيل المثال - علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني يهدد باستهداف القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة ردًّا على من يعتدي على إيران، معتبرًا أن هذه القواعد مرشحة لأن تكون أهدافًا محتملة لبلاده. وهو تصريح عسكري يمكن أن يصدر عن أحد قادة ميلشيا الحرس الثوري، ولكنها لعبة توزيع الأدوار التي يعتمد عليها الملالي كثيرًا في علاقاتهم مع الخارج.
يقول لاريجاني: «إن العدو يسعى لعرقلة التنمية الاقتصادية في إيران؛ لأنها قوة قوية في المنطقة لمنعها من تحقيق التقدم». وهذا كلام غريب؛ لأن مفهوم التنمية الاقتصادية ليس من مفاهيم التخطيط الاستراتيجي لدى نظام الملالي الذي أغرق البلاد في حالة غير مسبوقة من الفقر والفساد والتدهور البيئي والاجتماعي والاقتصادي. ومعلوم للجميع، بمن فيهم الإيرانيون أنفسهم، أن مشكلة إيران مع محيطها الإقليمي والقوى الدولية تتمثل في تدخلاتها الخارجية، وتمويلها للمليشيات الإرهابية، وسعيها المستمر لفرض النفوذ والهيمنة والوصاية على دول عدة في الشرق الأوسط، ومن ثم كان يفترض بمن يُفترض أنه يمثل الشعب الإيراني (رئيس مجلس الشورى أو البرلمان الإيراني) أن ينطق بما يقنع شعبه، لا محاولة تصدير الأوهام وبناء تخيلات غير واقعية حول أسباب أزمة نظامه مع العالم!
ثمة قراءة إيرانية أخرى خاطئة للمعطيات، تصدر على لسان الرئيس حسن روحاني، الذي قال مؤخرًا إن «السلام مع إيران هو أساس كل سلام، والحرب مع إيران هي أم كل الحروب»، في تصريح يعكس سيطرة «الأنا» على الفكر السياسي الإيراني بشكل غير مسبوق. الملالي لا يرون سوى أنفسهم، وكان لديهم شعور مسبق بالغطرسة، تزايد في الآونة الأخيرة لما سبق أن أشرت من تفسير. وهذا أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يقف حائلاً دون السياسة بكل ما تتطلبه من مرونة وواقعية وقدرة على التفاعل إيجابيًّا مع المتغيرات والتطورات.
يريد روحاني من الإدارة الأمريكية ما يصفه بتمهيد الطريق للتفاوض من خلال الاعتذار للشعب الإيراني، ورفع العقوبات الاقتصادية بشكل كامل، من دون أن يشير إلى بادرة إيجابية واحدة، يمكن أن تمثل رسالة حُسن نوايا بشأن الرغبة في المضي في مسار سياسي للأزمة. فمن الطبيعي أن يفرض كل طرف شروطه مهما كانت حدتها قبل أي عملية تفاوض، ولكن من البديهي في المقابل أن يقدم مع شروطه بوادر حُسن نية، تؤكد جديته في البحث عن حل سياسي.
الرئيس روحاني تحدث خلال لقائه مؤخرًا في وزارة الخارجية الإيرانية برفقة الوزير محمد جواد ظريف عما أسماه «التفاوض العادل»، وقال: «إذا أردتم الأمن، وأن يكون جنودكم في المنطقة بأمان، فالأمن في مقابل الأمن. أنتم لا تستطيعون الإخلال بأمننا وأن تتوقعوا الأمن لأنفسكم. وكذلك السلام في مقابل السلام، والنفط مقابل النفط، والمضيق مقابل المضيق. لا يمكن أن يكون مضيق هرمز مفتوحًا لكم وألا يكون مضيق جبل طارق كذلك بالنسبة لنا»!
هذه القواعد التفاوضية التي أشار إليها الرئيس الإيراني تمثل تجاوزًا وانتهاكًا لمبادئ الأمم المتحدة والقانون الدولي؛ فالمضائق البحرية - على سبيل المثال - ليست حقًّا سياديًّا حصريًّا لأي دولة مشاطئة، بل هناك قانون دولي ينظم الإشراف والسيادة عليها، ولا يحق لدولة أن تنفرد بذلك وتضع أمن مضيق بحري في كفة وأمنها في كفة أخرى! كما لا يحق لدولة أن ترتهن السماح بمرور الصادرات النفطية لدول عدة بالسماح بمرور نفطها!
الموقف الإيراني يعيد النظام العالمي إلى قانون الغاب؛ إذ اللا قانون واللا شرعية لأي مبادئ أو قوانين أو قواعد أنتجها التعاون الدولي بعد قرون وعقود طويلة من الحروب والصراعات والمواجهات العسكرية الدامية.