د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
أما المصطلحات فهي مفاتيح العلم التي لا يستقيم فهم علم إلا بها متى حررت واتضحت مفاهيمها؛ ولكن اتخاذها أو تطويرها أو تغييرها ليس بمنجاة من الأثر الثقافي المشارك في توجه فكر النحوي، وهي من لوازم التأليف النحوي، ولذلك أحسن المؤلف حين عقد الفصل الثاني لبيان أثر الروافد الثقافية في المصطلح النحوي ومناهج التأليف، فوقفنا على أثر الروافد الثقافية والعقدية في المصطلح النحوي ثم أثر الثقافة العقدية في العدول بالمصطلح النحوي إلى مصطلح آخر وفي نقل مصطلحات عقدية إلى النحو، وكذلك أثر الثقافة الفقهية والأصولية في المصطلح النحوي، ومن هذه المصطلحات مصطلح السماع أو النقل، والقياس، والاستحسان، واستصحاب الحال، والإجماع، والعلة، والدور، ومصطلحا التعارض والترجيح، ومصطلحا النسخ والتعليق، وانتقل لبيان أثر ثقافة الحديث وأصوله في المصطلح النحوي كمصطلح المتواتر ومصطلح الآحاد ومصطلحي المرسل والمنقطع، وأما أثر الروافد الثقافية في مناهج التأليف النحوي فعالج أثرها في مناهج التأليف في الأصول النحوية، فوقفنا على أثرها في مناهج بعض النحويين مثل ابن جني، وأبي البركات الأنباري، والسيوطي، ثم بين أثر الروافد الثقافية في مناهج التأليف في كتب الخلاف النحوي مثل كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري، و كتاب ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة لعبداللطيف بن أبي بكر الزبيدي، وكذلك أثر الروافد الثقافية في كتب الأمالي النحوية، وأثر الروافد الثقافية في مناهج التأليف في كتب التراجم والطبقات النحوية وكتاب مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي، وكتاب نزهة الألباء في طبقات الأدباء، وكذلك أثر الروافد الثقافية في مناهج التأليف في كتب الأشباه والنظائر النحوية.
وأما الفصل الثالث فهو من أكثر فصول الكتاب أهمية لتعلقه بأثر الروافد الثقافية في القاعدة النحوية، وهو فصل يتسم بالدقة والاهتمام بالتفاصيل، ولذلك وزعت مباحثه في ثلاثة مباحث أولها أثر الروافد الثقافية في توليد القاعدة النحوية وبنائها وفيه بيان لأثر القواعد الأصولية العامة في بناء القواعد النحوية كقاعدة (التابع لا يتقدم على المتبوع) وهي في الأصل قاعدة فقهية، ويظهر هذا الأثر في نصب المستثنى بـ (إلا) إذا تقدم على المستثنى منه، وفي منع تقدم التوابع على متبوعها، ومنع تقدم معمول التوابع على المتبوع، ومن القواعد قاعدة:(ما صح تبعًا لا يصح استقلالًا) وهي قاعدة في الأصل فقهية، وتظهر في مثل جرِّ (ربَّ) المعرفة، وإضافة (أي) إلى المفرد المعرفة، وجواب الشرط الجازم، وحذف الفاء من جواب (أمّا) الشرطية. وللروافد الثقافية أثر في بناء القواعد النحوية أنفسها، كأثرها في ترتيب المعارف في باب النكرة والمعرفة، ولها أثر في قضايا أخرى كالمذكر والمؤنث، والخفض على الجوار، والممنوع من الصرف (المؤنث المنقول من مذكر)، ولها أثر في قاعدة نصب الفعل المضارع المعطوف بالفاء على جواب الشرط، وفي جزم الفعل المضارع الواقع في جواب النهي، وثاني مباحث أثر الثقافة في القاعدة النحوية هو أثرها في تقرير القواعد والأحكام النحوية، فثمة قواعد عامة كان لها أثر في تقرير القواعد النحوية عامة
كقاعدة:(الضرورات تبيح المحظورات) نجدها في الحديث عن الفصل بين المضاف والمضاف إليه وفي باب النداء، ولهذه الروافد أثر في تعليل آراء نحوية في إعراب الأسماء الستة والحرف (لات) حقيقته وأصله، والاستثناء، والإضافة، والتعجب، وفعلي المدح والذم نعم وبئس، وامتناع اجتماع (مِن) مع اسم التفضيل المحلى بـ(أل)، واختصاص الأسماء بالنعت، ومعاني حروف العطف، واستعمال الهمزة في النداء، وجواز جر الممنوع من الصرف بالكسرة للضرورة، وما يكون عليه أقل الجمع. وأما ثالث مباحث أثر الروافد الثقافية ففي إيضاح القاعدة النحوية كما نجد ذلك في علة الإعرب وفي الأصل والفرع، وفي الابتداء وتقديم خبر المبتدأ عليه وناصب الظرف الواقع خبرًا و(لا) التي لنفي الجنس وأفعال القلوب (التعليق والإلغاء)، وعمل اللفظ المركب، وسبب منع صرف ما لا ينصرف لعلتين، وإعراب الفعل المضارع وعلامات إعرابه، والعامل في جواب الشرط.
وآخر فصول هذا الكتاب الرائد هو الفصل الرابع وفيه بيان أثر الروافد الثقافية في الشواهد والأمثلة النحوية، وقفنا فيه على أثر الثقافة العقدية في توجيه الشواهد والأمثلة النحوية وفي بناء الأمثلة النحوية ثمّ أثر العقيدة في الاستشهاد النحوي وفي الأمثلة النحوية، وثمة التفاتة إلى أثر الحياة الاجتماعية في الأمثلة النحوية وأثر الرافد السياسي في الأمثلة النحوية أيضًا.
وأحسب أن كل فصل من فصول هذا الكتاب صالح ليكون موضوع رسالة علمية موسعة ومعمقة تقفنا على تفاصيل تأثير ثقافة النحوي في معالجة القضايا النحوية انطلاقًا من مظاهر هذا التأثير الكامنة في تضاعيف التآليف النحوية، والباحث نفسه بيّن بجلاء أن عمله كان عملًا استكشافيًّا غرضه التمثيل لا الاستقصاء لأن مثل ذلك يطول أمره لكثرة شواهده.
اتصفت لغة الباحث الدكتور سعد المحمود بالوضوح الذي هو من لوازم المعرفة العلمية وبالدقة في التعبير عن المراد وبحسن تخير الألفاظ مع سلامة لغوية عالية، وتجافت عمّا تتصف به بعض البحوث والكتب المتخصصة من ترهل في عباراتها وطول في جملها وغموض في تعابيرها.
واعتمد لإنجاز بحثه على الصورة التي أراد لها أن تظهر فيه على طائفة كبيرة من المصادر والمراجع أحسن استعمالها والاستفادة مما فيها من خير، ولم يكن موقفه من نصوص تلك المصادر والمراجع موقف الناقل بل موقف القارئ الناقد المتخير المدرك لمقتضيات البحث وأصوله، وفّق الله هذا الباحث النحوي الواعد إلى مزيد من البحث والإنتاج العلمي المثمر.