محمد عبد الرزاق القشعمي
وبعد وفاة الملك عبد العزيز رغب العصيمي في اعتزال العمل بالتقاعد النظامي فأبدى رغبته هذه للملك سعود الذي لم يقبل منه ذلك بل طلب منه الاستمرار في العمل.
وفي نهاية عام 1374هـ أحس بأن ظروفه الصحية لا تساعده على أداء الواجب فكرر طلبه السابق، فرد عليه الملك سعود بتاريخ 25/12/1374هـ بالموافقة، وقال : «.. إننا لا ننسى الجهود التي بذلتموها لتوطيد دعائم هذا البلد بقيادة والدنا الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - كما لا ننسى ما قمتم به من جهد أثناء مزاولتكم العمل..». وقيل إنه عند تقاعده، ولحرصه على سمعة وكرامة الناس وأسرارهم الشخصية؛ فقد كان شديد الحساسية فيما يخص أسرارهم، أحرق جميع الرسائل والخطابات التي تتسم بالطابع الشخصي، والمتعلقة بالناس، وأبقى على الخطابات الرسمية التي تعالج أموراً إدارية أو عامة.
ولحبه لمنطقة عسير فقد قضى بها بقية أيامه. وكان مجلسه يضم العلماء ورجال الفكر وشيوخ القبائل ووجهاء المنطقة، وكان مثالاً للكرم وحسن لقاء الناس وإنزالهم منازلهم.. يتبسط في حديثه مع صغيرهم، ويجل ويقدر كبيرهم، ويزور مرضاهم، ويقضي حاجاتهم، وكان لا يسمح لأحد في مجلسه باغتياب أحد.
قال عنه الدكتور حمود البدر وكيل جامعة الملك سعود الأمين العام لمجلس الشورى السابق عندما كان طالباً بجامعة القاهرة عام 1381هـ/ 1961م إنه زار منطقة عسير ليستكمل بحثه في قسم الصحافة، وليطبق ما تعلمه نظرياً، وكانت المنطقة وقتها بكراً، لم تمسسها يد الإصلاح.. ويذكر أنه في تلك الجولة قابل أحد وجهاء منطقة عسير، هو الشيخ صالح العصيمي (مسيطة) القادم من (الزلفي)، فيستغرب أن يأتي ابن بلدته بصفته صحفياً، وقبله قدم أحدهم من بلدة (تمير) مفتشاً تعليمياً، وكان يعرف مستوى وتأخر التعليم في تلك المناطق.. فقال العصيمي: إن هذا من علامات الساعة أن يأتي زلفاوي كصحفي ومفتش من تمير.
وقال الدكتور محمد عبدالله آل زلفة في مقال له عن المعاهدة السعودية اليمنية: «.. إن صالح العصيمي هو من الشخصيات البارزة في الزلفي، وقد انخرط في خدمة الوطن وخدمة المؤسس منذ عام 1337هـ، وقام بسفرات مبكرة بتكليف من الملك عبد العزيز إلى بلاد الشام، خاصة سوريا، وتولى مناصب مهمة، منها إمارة ينبع عام 1347هـ، وفي عام 1352هـ كان على رأس المشاركين في حرب اليمن من أهل الزلفي.. وصالح العصيمي من الرجال الصالحين العصاميين الذين خدموا بلادهم بكل إخلاص منذ السنوات الأولى لإعادة بناء الدولة حتى آخر يوم من حياته..».
وذكر أن له مواقف إنسانية كثيرة، منها أنه عندما علم بحاجة أحد المستشفيات في عسير إلى جهاز أشعة بادر بالمساهمة بشرائه مع غيره على الفور، وتبرع به للمستشفى، ومعه جميع المعدات الملحقة به.
وكان يتمتع بكثير من الصفات الحميدة، وكان مرهف الحس، شديد التأثر، سريع البديهة، حاضر النكتة، محدثاً لبقاً، لا يمل المستمع إليه من كلامه لحلاوة حديثه وسعة اطلاعه. وكان لا يتبرم من أن يدعى بعبارته التي يعرف ويميز بها، وهي: (مسيطة) التي قال عنها إن والدته عند فطامه صارت تمنعه من الرضاعة وهو يلاحقها ويرجوها أن ترضعه.. وكان يسمع رفيقاتها يقلن لها: عطيه لو مصيصة حتى يسكت. فأصبح يردد لها «بس مسيطة»؛ فرافقته هذه العبارة حتى وفاته.
حرص على تربية أبنائه وتعليمهم، وغرس فيهم الخصال الحميدة؛ فتحلوا بالأخلاق الفاضلة، فجدوا واجتهدوا حتى حصلوا على أعلى المراتب. ومن أبنائه: الشيخ فهد رئيس كتابة عدل الرياض سابقاً، والشيخ راشد محافظ أحد المسارحة، واللواء محمد مدير الدفاع المدني بالمنطقة الشرقية سابقاً، والرائد تركي الذي استُشهد أثناء قيامه بواجبه في تطهير الحرم المكي من المعتدين سنة 1400هـ، والشيخ مقبل الذي يعمل بإمارة جازان، وابنتان هما :طيبة وسراء.
مرض في آخر حياته فتوفي بتاريخ 20/4/1403هـ 1983م، وشيعت جنازته في مشهد مهيب، مشى فيه الآلاف من أبناء المنطقة ورجالات الدولة، واستمر العزاء أكثر من شهر؛ فقد شعر الجميع بأنهم فقدوا رجلاً من رجال الوطن المخلصين الذين تركوا بصماتهم خلال فترة من أخصب فترات هذه البلاد.
وسنكتفي في الختام بالحديث عن استشهاد ابنه الرائد تركي في الأول من شهر المحرم 1400هـ يوم الثلاثة 20 نوفمبر 1979م في الدفاع عن الحرم المكي الشريف عند احتلاله من الفئة الباغية. وقد نشرت الصحف في اليوم التالي خبراً بعنوان: «استشهاد الشاعر الشاب الرائد تركي بن صالح العصيمي ركن عمليات كتيبة المظلات أثناء عملية الهجوم البطولي التي قامت بها قواتنا المسلحة، وذلك برصاصات غادرة طائشة، أودت بحياته وعمره 36 عاماً، واكتشفت جثته بالقرب من باب السلام، ووجد في جيبه صورة بناته الثلاث، أكبرهن ريم وعمرها 8 سنوات، يليها بتول وآية». ثم أضافت: «هذا هو الخبر الأليم الذي فوجئنا به في الأيام الماضية، فكان له في النفوس أشد وقع؛ لأن استشهاد هذا الشاب النابغ خسارة على الحركة الأدبية في بلادنا».
وعندما علم بالخبر الشاعر الدكتور غازي القصيبي فاضت قريحته الشعرية، ورثى صديقه الشاعر العصيمي بقصيدة سماها (يا ريم)، وهي مناجاة ومواساة، قال فيها:
يا ريم السمراء الحسناء الصامتة الشفتين
يا ريم الحوراء الهيفاء الواجمة العينين
يسألني وجهك عبر الصفحة أين تولى أين بابا؟
هل يرجع بابا الموغل في أعماق البير؟
إلى أن قال:
قولي يا ريم فلا يخشى بابا النيران
لا يخشى بابا الغيلان
بابا بطل الشجعان
قولي بابا ما مات
لكن سافر أسطورة بذل وسخاء
تذرع وجدان الصحراء