أ.د.محمد بن حسن الزير
إن الوظائف الحيوية العميقة في حياتنا، تلك التي أشرنا إليها إجمالاً فيما مضى من مقالات؛ تجعل من الضروري اللازم التمكين للغتنا العربية في حياتنا؛ لكي تحدث أثرها العميق المطلوب في هذه الحياة؛ لأن هذا التمكين لها هو المدخل الأساس لتحقيق ذلك الأثر؛ ولهذا نجد أن الله - عزّ وجل - قد مكّن للعربية في نفوس العرب قبل أن يُنَزِّل عليهم القرآن برسالة الإسلام، ومكّن لنبيه - عليه الصلاة والسلام - في الفصاحة والبلاغة منذ صغره، حين ربا في بني سعد، ونشأ في قريش العربية الفصيحة؛ فشبّ صحيحًا في بدنه وفي لغته، وكان يقول: «أنا أعربكم، أنا من قريش، ولساني لسان سعد بن بكر!» كنز العمال 11/404، رقم 31884.
ولهذا كان سلف هذه الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَن تبعهم بإحسان يهتمون بالتمكن من العربية؛ فأبو بكر يقول: «لأن أقرأ فأسقط أحب إليّ من أن أقرأ فألحن» مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ص 5. وعمر يقول: «تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه» إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله - عز وجل - للأنباري، تحقيق د. محيي الدين رمضان، دمشق، 1391هـ/1971م، 1/35. وقال: «عليكم بالتفقه في الدين والتفهم في العربية وحسن العبارة» فضائل القرآن في الإسلام، بيروت - دار الكتب العلمية1991م، ص209. وقال: «تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة» معجم الأدباء1/19، وفي طبعة مرجليوث 1933م، 1/77. وقال النووي: «إن لغة العرب لما كانت بالمحل الأعلى والمقام الأسنى، وبها يُعْرَفُ كتابُ رب العالمين، وسُنة خير الأولين والآخرين، وأكرم السابقين واللاحقين - صلوات الله عليه وعلى سائر النبيين - اجتهد أولو البصائر والأنفس الزاكيات والهمم المهذبة العاليات في الاعتناء بها، والتمكن من إتقانها بحفظ أشعار العرب وخطبهم ونثرهم، وغير ذلك من أمرهم. وكان هذا الاعتناء في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - مع فصاحتهم نسبًا ودارًا، ومعرفتهم باللغة استظهارًا؛ لكن أرادوا الاستكثار من اللغة التي حالها ما ذكرنا، ومحلها ما قدّمنا. وكان ابن عباس والسيدة عائشة وغيرهما - رضي الله عنهم - يحفظون من الأشعار واللغات ما هو من المعروفات الشائعات. وأما ضرب عمر بن الخطاب وابنه - رضي الله عنهما - أولادهما لتفريطهم في حفظ العربية فمن المنقولات الواضحات الجلية» مقدمة تهذيب الأسماء واللغات، لبنان - دار الكتب العلمية.
ونطلب التمكين للعربية؛ لأن أول أبواب الأمن الفكري هو الأمن في فهم مقاصد الدين والشريعة، وبابها الوحيد هو اللغة العربية؛ فهي لسان الشريعة، وأداة بيانها؛ ولذلك قال ابن القيم: «إنما يَعْرِف فضل القرآن من عَرَفَ كلامَ العرب» الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص 7.
وقد أدرك أعداء الإسلام منذ ظهوره الخطورة عليهم من فهم الناس القرآن، وإدراك معانيه؛ بسبب لسانه العربي المبين، وقد أثبت القرآن ذلك في قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} فصلت 26.
والتمكين اللغوي يرفع قدرة الفرد والمجتمع اللغوية، ومهارتهم فيها؛ بما يحقق لهم الأمن الفكري، والحصانة الذاتية فيهم ضد الانحرافات الفكرية، والاختراقات، التي تهدد هويته وثقافته وفاعليته؛ (انظر وثيقة بيروت ص 30-32). ويجعلنا أكثر قدرة على التفكير العلمي، والحصول على العلوم والمعارف، بصورة منهجية دقيقة؛ حين تكون اللغة العربية هي لغة التعلم والتعليم مطلقًا؛ وبخاصة تعليم العلوم التطبيقية، كالطب والرياضيات والعلوم؛ لأن التلميذ الذي يتعلم «بلغته الوطنية يكون أسرع إلى الفهم والإدراك من التلميذ الذي يتعلمها بلغة أجنبية؛ فهذا يبذل مجهودين؛ أحدهما في فهم لغة التعبير الأجنبية، والثاني في فهم المصطلح العلمي. أما الذي يتعلمها بلغته الوطنية فيكون المجهود الذهني والفكري الذي يبذله مجهودًا واحدًا؛ لأن اللغة الأم مدركة في إحساسه اللغوي. ويؤكد خبراء وزارة التربية من أساتذة ومفتشين أن التلاميذ أصبحوا أكثر استعدادًا لفهم العلوم والرياضيات مما كانوا يوم كانت تلقن لهم هذه العلوم بالفرنسية. ويؤكد ذلك أيضًا الخبراء الأجانب الذين كانوا قد نصحوا باستعمال اللغة الوطنية..» عبد الكريم غلاب من اللغة إلى الفكر ص 68. كما أن التمكين اللغوي يقوي الاعتزاز بالعربية والاعتداد بها، ويقوي مناعة أمن أهلها الفكري والوطني.
إن الأمة تضعف بضعف لغتها، والعكس صحيح؛ فاللغة تضعف كذلك بضعف أهلها، ومعنى ضعفها هنا هو ضعفها في وجودها الفاعل في حياتهم، دون أن يعني ضعف اللغة في ذاتها. ولا شك في أن تمكين المواطن من اللغة العربية؛ بتمكُّنه من تعلمها بشكل صحيح، وممارسته لها في حياته، تمكين لعوامل قوّة الأمة كلها، واستثمار ناجح في صحة تفكيرها وأمنه، ووحدتها، وقوّة فاعليتها، ووفرة إنتاجها. وللحديث صلة.