أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الواجب أن تكون صلاة المسلم جماعة مع المسلمين إلا لعذر شرعي، والمستحب الأفضل صلاة النوافل في البيت، ولا يتخذ له مكانا معينا لا في البيت ولا في المسجد؛ بل ينوع الأمكنة؛ لينال بركة كل جزء من البيت عمره بالسجود؛ وأما في المسجد: فعليه أن يختار أول الصف عن يمينه من جهة الإمام ؛ وإذا صلى في بيته نافلة، أو قضاء، أو فريضة فاتته فيها صلاة الجماعة لعذر شرعي: فليطل القنوت والسجود والركوع؛ وإذا كان في تهجد فليحرص على الاستفتاح المشروع في التهجد في كل مرة استفتاح واحد، ثم استفتاحٌ بنص آخر؛ ولا يجمع بين كل ما صح شرعا من أدعية الاستفتاح، بل ينوع.
قال أبو عبدالرحمن: ولقد كثرت النصوص وتواترت بأنه لا إيمان إلا بإذن الله، وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء؛ وعرف بالاستنباط الدقيق، والجمع بين النصوص: أن الله لا يضل عبده ابتداء؛ بل يكون إضلاله عقوبة له على ذنوب يمارسها متراكمة؛ ولهذا ينبغي في مواطن الدعاء ملاحظة أن ما تواتـر بالنصوص الشرعية عن تعليق الإيمان بإذن الله ومشيئته لم يرد مطلقا؛ بل فتح الله للناس باب الأسباب التي يحصل بها إذن الله سبحانه وتعالى بهدايـته، ثم يحصل له برحمة ربه استمرار الهداية إلى أن يلقى الله.. كما أن ربنا سبحانه وتعالى هيأ لـعباده الأسباب في شؤون دنياهم؛ وأول هذه الأسباب النظر في الأنفس والآفاق، واستخلاص البراهيـن الدالة على وحدانية الله وكماله مـجردا نظره من الشهوات والأهواء وتشكيك المعاندين؛ فإن ما عند الكفار محال، وما يثبت بالبرهان العلمي من الإيمان بالله: يتعين وصفه بالحق الواجب حال كونه علما مـحققا؛ وأما الكافر فلست أقول: (إنما عنده علم)؛ بل أقول: (إن الذي عنده عناد وشهوات نفس، واتباع الإلف والعادة التي عاش عليها عند من هم على شاكلته).
قال أبو عبدالرحمن: من البرهان العلمي يظهر جليا صدق الشرع وعصمته؛ فيذعن العقل لوجوب امتثال توجيهه وإرشاده.. والبرهان على هذين الأمرين: برهانٌ عقلي علمي جاء بنص الشرع؛ وهو النصوص عليها المتواترة بأن الكافر مفتر كما في قول الله سبحانه تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (66) سورة يونس،وقوله سبحانه وتعالى:{قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [سورة يونس/68–69].. كما أن البراهين المذكورة آنفا: قائمة على أن الله تكفل بالبراهين المحصلة للإيمان بما تواترت به النصوص من ذكر آيات الله، ووجوب ما هدى إليه البرهان، وتعنيف من صد عن الآيات كما مر.
قال أبو عبدالرحمن: باستقراء نصوص الشرع: تـجد أنها لا تكاد تـحصي فيما بينه الله من الآيات والبراهين، ولاسيما في السور المكية؛ والسر في هذا أن الله سبحانه وتعالى لما نبأ محمدا صلى الله عليه وسلم، وأرسله بسورة الفلق، والمدثر، والمزمل: لـم يطالب الخلق بأحكام مشروعة بدون براهين يحصل بها الإيمان، وتزول بها الشبهة؛ فكان معظم السور المكية مخاطبة العقل والحواس والقلب الذي هو مقر الإيمان بالبرهان إذا صدقت الطوية؛ وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة الحجة، وإزالة الشبهة، وحتمية وصف من أبى: بأنه معاند منقطع في الخصام، ليس عنده ما يدفع به البرهان العلمي؛ وذلك خلال ثلاثة عشر عاما منذ بعثته صلى الله عليه وسلم، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي من عمره المبارك الشريف بأبي هو وأمي عشر سنوات؛ فتوالت عليه أحكام التشريع خبرا، وأمرا، ونهيا، وصحة، وفسادا، (ويجمع كل ذلك ما يسميه أصحاب أصول الفقه (الحكم التكليفي)، و(الحكم الوضعي).. ويأتي في بعض الأحكام برهانٌ يبين مصالـحها الدنيوية كما في أمر القصاص، وتأتـي نصوصٌ ليس فيها احتجاجٌ، ولا بيانٌ لـمصالح دنيوية كأعداد الصلوات وهيئاتها، ومثل ذلك أحكام الحج والعمرة؛ ذلك أن العقول والقلوب أذعنت بالبراهين العلمية؛ فانقادت لأحكام شرع الله، وكان دور العقل عندهم الاجتهاد في فهم مراد الله على المنهج الذي أراده الله من الرجوع إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولغة العرب، مع الجمع بين النصوص.. هذا إذا لم يكن الخطاب الشرعي صريحا، أو يقتضي جمعا بين النصوص الصحيحة الأخرى برفع التعارض؛ فأي واحدة من شروط المنطقييين الثمانية يرفع التعارض كاختلاف الزمان والمكان، وما يرفع التناقض: ليس اتباعا لأهل المنطق؛ ولكنه فطرة في العقول، وهذا ما فعله حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عندما رفع ما استشكله المستشكل من كون أهل النار يوم القيامة لا ينطقون؛ وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى؛ لأستكمل هذه المسائل، والله المستعان.