الوفاء مع الوالدين بعد الممات
كان أبي يعاملني في طفولتي كصديق له، فلما كبرتُ كان قد ضعف بصره وكنتُ قد انشغلتُ عنه، فكنتُ لا أجلس معه إلا قليلاً، كان يجلس كثيراً وحيداً، ثم سافرتُ، وفي سفري أحسستُ بذنبي، فنويتُ عندما أعود إليه ألَّا أدعه وحيدًا أبدًا، وأنا منذ عامين وأنا مسافر فمات أبي -رحمه الله- ولم أره، وقلبي الآن يحترق، فماذا أفعل من الخير لأبي حتى أحس بالراحة؟ وأسألكم الدعاء لأبي بالرحمة والمغفرة.
- رحمنا الله وإياه وغفر لنا وله، هذا يقول: إن أباه يعامله في طفولته معاملة الصديق، فأبوه بعد إحسانه إليه الإحسان الأكبر وهو: أن كان سببًا لوجوده في هذه الدنيا، يعامله بالحسنى وهو صغير، فيترفَّق به ويلطف به كأنه صديق له، كَبُر هذا الولد فماذا كان موقفه من هذا الوالد الرفيق المحسن؟ يقول: (فلما كبرتُ كان قد ضعف بصره)، يعني زادت حاجة الوالد إلى الولد فماذا كان من الولد؟ الولد انشغل عن أبيه، وهذا أمر عادٍ وطبيعي أنَّ الولد إذا كبر يتزوج ويتوظف وتكثر مشاغله وتكثر التزاماته هذا أمر عادٍ وطبيعي، لكن مع ذلك كله لا ينبغي له بحال ولا يسوغ له بأي حال من الأحوال أن ينشغل عن والديه، ليس ذلك بمبرر أن ينشغل عن والده، لا سيما مثل هذا الوالد الرفيق الذي يتعامل معه بهذه الطريقة، ولا يعني أن غيره من الآباء لو لم يتعاملوا بهذه الطريقة أن حقوقهم تُهدر، لا بد أن يُعتنى بشأن الوالدين فحقهما عظيم جدًّا وهو بعد حق الله -جل وعلا-، يقول: (فلما كبرتُ كان قد ضعف بصره، وكنتُ قد انشغلتُ عنه فكنتُ لا أجلس معه إلا قليلًا)، لا شك أنه إذا كانت كثرة الجلوس مع أبيك تخل بمصالحك التي أنت محتاجٌ إليها وتتضرر بتركها هذا له حكم، لكن إذا كانت مشاغلك لا تضر بك ولا بمصالحك فانشغالك عنه بهذه الأسباب التي لا تضر بك حرمان، والأب ومثله الأم باب من أبواب الجنة، قد تفيق في يوم من الأيام وقد أُغلق هذا الباب دونك، فاستغل هذا السبب الموصل إلى رضوان الله -جل وعلا- وجناته ما دام موجودًا قبل أن تندم ولا ينفعك الندم. يقول: (فكنتُ لا أجلس معه إلا قليلًا، فكان يجلس كثيرًا وحيدًا ثم سافرتُ)، وهذا أشد؛ لأن نعمة الولد إنما تكمل إذا كان حاضرًا عند والديه شاهدًا عندهما، ولذلك امتن الله -جل وعلا- على الوليد بن المغيرة بقوله من ضمن نِعمه التي امتن بها عليه: {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 13]؛ لأن الولد الذي يسافر السنين الطويلة من غير ما ضرورة هذا نفعه لوالديه أقل، وأيضًا فإن امتنان الوالدين به وانتفاعهما به أقل، يقول: (وفي سفري أحسستُ بذنبي فنويتُ عندما أعود إليه ألَّا أدعه وحيدًا)، لا شك أن الندم توبة، لكنه يقول: (نويتُ عندما أعود)، متى يعود؟ المفترض أن ينوي العودة إليه ويقول: (نويتُ أن أعود)، إلا إذا كان في أمرٍ لا يستطيع تركه فهذا شيء آخر، يقول: (فنويتُ عندما أعود إليه ألَّا أدعه وحيدًا أبدًا، وأنا منذ عامين وأنا مسافر، فمات أبيولم أره، ولكن قلبي الآن يحترق)، نعم، اندم وابكِ على خطيئتك، فيُرجى أن يتجاوز الله عنك، وأكثر من دعائك لوالدك، يقول: (فماذا أفعل من الخير لأبي حتى أحس بالراحة؟)، أكثر من دعائك له، وأكثر أيضًا من الصدقة عنه، وصِل من يُوصل بسببه من أقاربه ومعارفه وأصدقائه، وحينئذٍ نرجو أن تُكفِّر عنك هذه الخطيئة، وأن تُحس بالراحة بعد ذلك، والله أعلم.
***
المفاضلة بين الصبر والشكر
أيهما أفضل الصبر على البلاء أم الشكر على النعم؟
- المسألة خلافية بين أهل العلم، وبسطها ابن القيم -رحمه الله-في كتابه النفيس (عِدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)، ولكل من القولين أدلته، وكأن المرجح عند شيخ الإسلام أن الشكر على النعم أفضل من الصبر؛ لأنَّ الشكر اختياري والصبر إجباري، والأولى ألَّا يُحكم بحكم مطَّرد على الأفضل منهما هذا أو ذاك؛ لأن لكل من القولين أدلة قوية جدًّا، وينبغي أن ينظر إلى حال الصابر وحال الشاكر؛ لأن الترجيح هنا بالتقوى، فمن كان أتقى لله منهما فهو الأفضل، والله أعلم.
** **
يجيب عنها معالي الشيخ الدكتور / عبدالكريم بن عبدالله الخضير - عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء