د. حمزة السالم
ظهور الطبقة الوسطى كالشريحة الأغلب في المجتمعات المتطورة هو ظاهرة حديثة نسبيًّا - لا تتعدى تاريخيًّا عقود ما بعد الثورة الصناعية - وعلى الأخص في البلاد الديمقراطية. (ولا يُنسى أن ينسب الفضل لأهل الفضل؛ فأول من ابتدأ تصحيح الرأسمالية لصالح العمال هو الرئيس الأسد [ثيودور روزفلت] أوائل القرن المنصرم. وأول من صححها من جانب تدخُّل الحكومة في الاقتصاد، ووضع البرامج والمشاريع التطبيقية لتحفيز الإنتاجية، هو الرئيس المشلول، عظيم عصره [فرانكلين روزفلت]).
فتاريخيًّا عبر الأزمان والأماكن والأيديولوجيات، كان أغلب أفراد المجتمع طبقة كادحة، تعمل لتأكل. وما الحضارات الإغريقية والفرعونية والفارسية والصينية والهندية والأندلسية وغيرها إلا شواهد على سفك دماء كثير من أفراد المجتمع في حروب على السلطة من أجل تسخير بقية أفراد المجتمع لبناء القصور الفارهة والأسوار العظيمة والأهرامات والحدائق للقياصرة والملوك والأمراء، وتسخيرهم من أجل تقديم ما لا يمكن تحصيله اليوم؛ بسبب ندرته وصعوبة صناعته، من أرق الثياب، وأجمل المفروشات، وأطيب الطعام لهذه القلة القليلة المتمكنة.
فالآلة ثم التكنولوجيا، مقترنة بالعدالة النسبية في الأنظمة الديمقراطية، وفَّرت مناخًا مناسبًا لنمو اقتصادي في هذه الدول، مع عدالة في توزيع الثروات؛ وهو ما جعل الطبقة الوسطى تنمو فيها إلى أن أصبحت الطبقة الوسطى هي الطبقة الغالبة، والوسط بين الأغنياء والفقراء. فالصناعة هي شرط لازم لوجود الطبقة الوسطى؛ فهي التي تصنع، وهي التي تستهلك؛ فهي أساس العرض العام والطلب العام.
وهذه الطبقة الوسطى لكي تكون حقيقية ومستمرة يجب أن توجد نفسها بنفسها، لا أن تنفخ بتوصيلات خارجية. ومعنى توجد نفسها بنفسها أي أن يكون إنتاجها الذاتي هو الذي يخلق الوظائف، وهو الذي ينتج ثمن ما تستهلكه من البضائع والخدمات غير الضرورية.
وعلى هذا فمكانة الطبقة الوسطى في الدول النفطية في الواقع هي طبقة مستأجرة بأموال النفط. فدول النفط لا تنتج غالب ما نستهلكه من غير الضروريات، ولا تنتج أيدي أبنائها ما يمكن أن يشتريه العالم، إنما هي أموال النفط، تنفقها لاستئجار هذه المكانة، تمامًا كما يستأجر غالب الناس منازلهم.
وحد الطبقة الوسطى المتفق عليه هو كون أفرادها قادرين على استهلاك البضائع والخدمات غير الضرورية، كالقدرة على التمتع بالإجازات، وتوافر الخدمات الصحية في غير الطوارئ، كالسيارات، وكاختلاف أنواع الطعام، وليس حصوله على أرز أو تمر أو حنطة فقط، كما كان سابقًا في عصور الإقطاع التي غلبت على المجتمعات الإنسانية لآلاف الأعوام.
وكذلك هو المسكن؛ فهو من الضروريات؛ لذا فلا يدخل امتلاك فئة منازلها حد الطبقة الوسطى. ففي فيتنام مثلاً نسبة امتلاك المنازل تزيد على 100 %؛ فالفيتناميون يمتلكون عادة أكثر من منزل، وأكثرهم مصنَّف من الطبقة الفقيرة! (ويلاحظ أن فيتنام مجتمع زراعي ليس صناعيًّا؛ لذا لا توجد فيه طبقة وسطى). وفي أمريكا، وفي آخر إحصاء متشائم ومتشدد، كانت الطبقة الوسطى تشكل 45 % من السكان، رغم أن نسبة تملُّك المنازل عندهم أكثر من 70 %.
وخلاصة القول: الطبقة الوسطى ركن من أركان الاقتصاد الصناعي؛ فهي التي تخلقه ابتداء بالإنتاج، وهي التي تستهلكه انتهاء، وذلك بخلاف الاقتصاد الإقطاعي.