عبدالعزيز السماري
ربما يتذكَّر البعض أنه عندما ترشح بيل كلينتون للرئاسة في عام 1992، قام أحدهم بوضع لافتة في مقر حملته، وكتب عليها «إنه الاقتصاد، يا غبي»، مذكِّراً المرشح، وكل من يعمل معه للحفاظ على التركيز على هذه القضية، وقد صاغ بيل كلينتون الكثير من حملته في ذلك العام فيما يتعلّق بالصراع بين الناس العاديين من جانب، والأثرياء من جهة أخرى، مع شعارات مثل «القتال من أجل الطبقة الوسطى المنسية» و»وضع الشعب أولاً»، وكانت النتيجه انتصاراً سياسياً ساحقاً.
لذلك كل من يغفل أهمية الوضع الاقتصادي للبلاد، وتأثيره العميق في اختلاف نفسيات الشعوب واضطرابها يخسر معركته مهما فعل، ولذلك تعاني الشعوب العربية من حالة اكتئاب وقلق وبطالة مقنعة وغير مقنعة، بسبب المستقبل الاقتصادي غير الآمن، فالناس مستعدة للفرح والسعادة إذا توافرت ضروريات الحياة، وفي مقدمتها العمل والإنتاج وتحسّن الدخل..
أدرك تمامًا أن الحياة أكبر من المادة، وأن الأخلاق والقيم تعتبر ضرورية في حياة الشعوب، لكن لا يمكن تجاوز موضوع أساسي، وهو أن الاقتصاد يأتي أولاً، وما عدا ذلك يدور حول مركزية السوق، فالعمل والإنتاج عنصر أساس في حياة الشعوب، ومن يقول غير ذلك فهو أيضاً مخطئ تمامًا..
ربما يفسر ذلك الوضع السياسي المستقر في الغرب، والذي تجاوز عمر الدولة القديم، فالاهتمام بالاقتصاد يجعل من الناس في حالة نفسيه أفضل، وهو ما يخفف التطرف والثورية والمظاهرات والاضطرابات، بينما لا يزال الشرق يعتقد أن الدولة هي الأمن فقط، وهذا صحيح في جانب كبير، لكنها مثل اليد الواحدة التي لا تصفق في ساعة الفرح..
الاقتصاد لا يعني على الإطلاق ثقافة العطاء، وهي إرث قديم، وكان له أثار سلبية كبرى على العقل، فالناس توقفوا عن العمل، وأصبحوا ينتظرون عطاء الدولة، أو ما يجده الطفيلي من مكاسب عماله الذين يعملون تحت كفالته، ويعطونه مبلغاً للتستر على عملهم في السوق، وثقافة العطاء بدون مقابل كارثية، فهي تؤلِّب العقول، وتفتح الباب لمختلف المشاعر السلبية.
من الأشياء المسكوت عنها أيضاً في تاريخنا ذلك الخلاف حول تشريع العطاء، ويذكر التاريخ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أسس ديواناً للعطاء، وفرضه للأقرب فالأقرب، وفي نفس السياق كان لداهية العرب ورمز الليبرالية الرأسمالية في تاريخه أبي سفيان رأي مخالف، وذلك عندما اعترض على فكرة العطاء بدون عمل وقال: أديوان مثل ديوان بني الأصفر يا عمر..، إنك إن فرضت للناس اتكلوا على الديوان، وتركوا التجارة أي العمل مقابل ثمن مادي، فقال عمر: لا بد من هذا فقد كثر فيء المسلمين، وهو ما يعني ارتفاع احتياطات الدولة النقدية..
هذا دليل على أن بعض التقاليد الموروثة تم إلباسها لباس الدين لأسباب سياسية، وقد كانت الغطاء الآمن للكسب المادي غير المشروع، ولهذا كانت نظرية العطاء خروجاً عن نواميس ثقافة العمل، وإذا لم نعد الكسب المادي إلى العمل والابتكار والإنجاز، سنصل إلى درجة الانفصال التام بين طبقتين إحداهما ثراء فاحش، وأخرى تئن تحت خطوط الفقر وكلتاهما لا يعمل، وذلك هو المدخل الأكبر لفساد الشعوب..