د. خيرية السقاف
لعل من أجمل العلائق بين الأفراد في هذا المجتمع: الإيثار، والمحبة.
فالإيمان مطلقٌ بأن الإيمان لا يتحقق للمرء دون أن «يحب لأخيه ما يحب لنفسه». وهذا الحب يجعل الموقف وحده ما يحكم الحالة؛ وبالتالي هي وحدها الحالة ما تشكل «القرار». فكما أن الوالدين حين يعاقبان ابنهما لخطأ ما؛ فيمنعانه عن حرية الحركة خارج المنزل بهدف تربيته، وتعريفه بحجم الخطيئة التي استدعت هذا العقاب، فإن الوالي حين يحكم بالسجن على الفرد بخطيئته يفعل ما يفعل الوالدان.
فالسجناء أبناء، مع اختلاف حجم الخطأ، وأبعاد آثاره، ومدة عقوبته، ونتائجها..
الوالدان يضعان نُظمًا، وقواعد لإجراءات تنشئتهم، ومسالك جزاءاتهم وعقوباتهم، في الوطن الصغير «البيت»، تمامًا كالذي يفعله الحاكم في الوطن الكبير بالإجراءات النظامية في التعامل مع مسالك، ونتائج أفعال الأفراد..
الوالدان يقيدان حرية ابنهما الخطَّاء في حدود «باب» المنزل، والحاكم يقيدها في حدود باب «السجن»، كلاهما بهدف منع نتائج أخطاء الأفراد من أن تمس الفرد ذاته، ومَن في محيطه بسوء، ومن ثم باتساع حدود «البيت» الصغير للوطن الكبير كل «البلاد» حين تمسها أخطاء هذا الفرد..
الوالدان يمنحان الحرية لسجين الحجرات في حيز البيت حين يُستتاب فيتوب بإدراكه أثر الحرمان من متعة الحرية..
والحاكم يفعل حين يتطهر الخطَّاء بتوبته..
لكن تطرأ مواقف استثنائية لمنح سجين البيت الصغير، وسجين البيت الكبير..
في هذا الوطن تقود الحكمة والرحمة مسالك القائد الملهم، حين تشرع أبواب السجون في المواسم الدينية بما يعزز رابطة الفرد بقيم هذا الدين، منطلقًا من إيمانه بأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فيأتي العفو عن السجناء في رمضان ليعيِّدوا مع ذويهم في فرح، وحين يتحمل القائد عن سجناء الحق الخاص ما عليهم من ديون فيسددها؛ ويطلق لهم حرياتهم خارج مقابض أبواب السجون، وحين يكون شريكاً بأجهزته ومؤسساته الفاعلة، أمنية وخيرية وسواها، بكفاية ما على المساجين من «ديَّات»؛ فتُعتق رقابهم من القصاص؛ فينطلقون أحراراً خارج السجون..
واليوم في حجة 1440 جاء السجين حُراً طليقاً على أديم أرض المشاعر من ثرى عرفات لصحن الطواف، ومن فردية السجن لمرافقة مَن يشاء..
السجناء يحجون في فرح، وحرية، وثقة، غير موثَّقي الأيدي، ولا وحيدين خلف الأبواب..
بادرة ذات مقاصد جليلة، تكلل بها قرار الأب سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الوثاب محمد بن سلمان، ووزير الداخلية الفعال عبدالعزيز بن سعود بن نايف، بإطلاق حرية سجناء يرغبون في الحج فحجوا، ومُنحوا فرصة رحبة باختيارهم لرفقائهم في الحج؛ فكان مَن اختار منهم أباه، أو أمه، أو صديقه، أو ابنه.. وحجوا آمنين، مطمئنين، في كنف وطنهم الشاسع بسلامه، وأمانه..
مهابة جليلة حين السجين يحج محرَّراً طليقاً في تبادل ثقة، يؤدي فريضته بفرح..
مهابة جليلة لمعنى الحرية، والثقة، والمحبة المفضاة من قلوب مؤمنة، ولحمة وطنية متينة، وأبوة ملكية رحيمة، ووطن عريق، ترف عليه خضراءُ برحمات الله، وسلام نفوس أهله من القمة لما يندرج تحتها..
عامر يا وطن بالخير، متين بقواعد إيمان أهله، وأخلاقهم..