د. مسعد بن عيد العطوي
في حيرة من أمري، عندما أتناول قلمي للكتابة عن الشبيلي، هل أكتب عن فقده وسحابة الأحزان التي خيمت عليّ وعلى صحبه الذين طوى في قلوبهم ثنايا الود والحب؟ تعهده الله في مثواه بالإكرام وخصه بثراء الرحمة والإحسان.. أم عن أعماله الجليلة وخصائصه الإنسانية ومعارفه الثرية؟.. لذا قطفت أدناها لمعرفتي القاصرة فأقول:
منذ عرفنا الإعلام والدكتور عبد الرحمن الشبيلي يطل علينا بالأفكار المعاصرة، والرؤية المستقبلية، ويستنطق كبار رجال الدولة عن الواقع، ويستشرف المستقبل، ومن خلالها يدون تاريخًا عظيمًا لوطننا، وهو أحد رواد الإعلام، وكان له لمسات ومقترحات حول بناء الإعلام. ولما كُلف بالقيادات الإدارية كان له أثره المؤثر، وقام بالتدريس في جامعة الملك سعود، ثم وكيلاً لوزارة التعليم العالي، ثم هو من الدفعة الأولى التي أسست مجلس الشورى، وكانت أطروحاته في مداخلاته متألقة بالأفكار الجديدة التي لها عمقها الفكري.. وطوال دوراته الثلاث كان محاورًا راقيًا عفيف القول، لا همازا ولا لمازا، يستميل الأعضاء بلين الجانب، ولطف المعشر، وصدق الحوار.. إنه أحد أعلام مجلس الشورى، ومن المجلس تفرعت له ملتقيات كثيرة، التف حوله كثير من الأعضاء. وقد صحبته في دعوات ثقافية، فكان في مقدمة المتحدثين لشهرته وتعارفه مع ذوي الشأن والجاه والعلماء والمثقفين..
وكان حيثما حل يجد تكريمًا؛ فهو الوجيه المحبوب لقاؤه.. ونال تكريمات متعددة بين أبناء الوطن، منها حديثه اللطيف أمام أمير المدينة المنورة سابقًا الأمير مقرن بن عبد العزيز، والأمير فهد بن سلطان، وغير ذلك الكثير.
إن الشبيلي وليد هذا الكيان للدولة، وقد بذل قدراته لتطور الداخل، ومواكبة الخارج، وسخر الله لهذا الوطن الخيرات، ومكّن للعباقرة من البلاد أن يطوفوا خلال الكون، ومنهم الشبيلي الذي جاب البلاد، وكشف أسرار المعارف والعباد، واستلهم معالم الحضارات المتألقة ومعالم الإنسانية الرائدة، فكان الشبيلي شهدًا مصفَّى من طبائع هذا العالم المعاصر؛ فتمازج مع تراكم الثقافة والوعي التراثي. وقد تجاوز الشبيلي القناطر القاطعة بتأمل الأحداث وتدبر الاختيار، وكان يصقل قواه في أناة وتريث في مسيرته المتواصلة بدماثة أخلاق، وتباعد عن النزاع والصدام، بل يحجم عن إعلان الحجج والبراهين؛ فتمرّ تلك الأزمات بسلام، وتظل شخصية الشبيلي ثابتة، ومكانته مرموقة، يتقدم إلى عِلية القوم في بهاء وجلال واستقبال واحتفاء وحوار وبث آراء.
كانت داره أو دارته مجمعًا للفيف من الوجهاء والمثقفين، وأساتذة الجامعات من سائر مناطق الوطن، يتبادلون الحوار ولطيف القول، وربما النقد بالقوة الناعمة. وكان الرجل هاشًّا باسمًا، تقطر ألفاظه زهورًا متنوعة؛ فمجلسه أشبه بمجلس ابن زيدون الذي زاره في العيد أكثر من أربعمائة رجل، ولم يرد التهنئة بعبارة مكررة؛ وذلك لغزارة لغتهما.
ويقدم الشبيلي خلالها أجمل الأطباق وأذوقها من المأكولات والمشروبات.. إنه في كرمه وأخلاقه وسلوكياته من عجائب الإنسان؛ إذ (جمع بين علو الجاه والتواضع). وكانت أحاديثه ذات غرائب في بُعدها عن السطحية، وفي درر أفكارها الحكيمة، وألفاظه وتراكيبه مصفاة من الشوائب في أقواله وكتابته؛ فهو يتعهدها بالتأني والتأمل والمراجعة في التدوين. وكانت محاضراته ملتقى المثقفين.. يكفي أن تتصدر بمحاضرة للشبيلي فيحضرها الجمع الغفير.
وكانت رحلاتنا تتميز بالسير الطويل، وكان هو من الملتزمين بها، وكنا نصحبهم فنطوي بُعدها بلطيف الأحاديث، وتحليلها للواقع المعاصر. إن ثراء المعرفة والتجارب يفيض على أحاديثه بكل جديد.
كنتُ رئيس النادي الأدبي في تبوك، وأقمنا مؤتمرًا للثقافة، ودعونا له جمعًا من كبار المثقفين، وكان الشبيلي وزملاؤنا من أعضاء مجلس الشورى في مقدمة المدعوين، وقد حظي باحتفاء أمير المنطقة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان، وأهلها، وألقى الشبيلي كلمة الضيوف، فكانت إطلالة جميلة منه على تبوك، ونال إعجاب وجهاء المنطقة ومثقفيها، ومن بعدها أخذ يمدني بمجموعات من مؤلفاته لأقدم بعضها لسمو الأمير والوجهاء والمكتبات، وقد نالت كتب السيرة للأعلام إعجاب أمير المنطقة.
لقد اطلعت على مكتبته، ورأيت فيها النوادر المنتقاة والكتب النادرة، والمصادر القديمة، والكتب المترجمة وغير المترجمة، وأدركت من خلال صحبته أنه تزود بالكثير من غيرها، ومع ذلك يملك مكتبة خفية، تمده بالمعلومات الثرية.. تلك هي علاقاته الإنسانية؛ فهو اقترن بكثير من شرائح المجتمعات، وبملأ من الوجهاء والنبلاء والمثقفين، وكان ينهل من أفكارهم وتاريخهم وحوادث أزمانهم، ويحاورهم كثيرًا؛ فكانوا جداول ارتوى منها الشبيلي علمًا نافعًا، وتجارب مثمرة، وصداقة ودية، وخبرة إنسانية؛ وهو ما جعله يؤلف عن كثير من رجال هذه البلاد الذين لهم دور في بناء الوطن من الأمراء والوزراء والمستشارين والعلماء. ألّف كتبًا تحمل الفكر وتاريخ البلاد وقضايا المجتمع ومعاناة البناء.. وكونه من رواد الإعلام والتلفاز بشكل خاص فقد فتح له باب التعارف ضرورة أو لأجل العمل، وكذلك دوّن تاريخ المنظومة الإعلامية من تطور، وأفاض في الحديث عن الشخصيات التي لها دور إعلامي في بلادنا.
إن شخصية الشبيلي وما كتبه، والذي ما زال مطويًّا، يستحق رسائل جامعية تحليلية، ودراسات جادة.. وننتظر من المقربين له المزيد مما يزيد ويثري سيرته. جعل الله تلك الأعمال في ميزان حسناته، وجعلها لسان صدق في الدنيا والآخرة. رحمه الله وغفر له.