مرت الأيام القليلة الماضية مثقلة حزينة متشحة بألوان الحداد على فقد رائد من رواد الثقافة والإعلام. إذ ترك الفقيد مساحة شاسعة في قلب كل من عرفه أو تعلم على يديه، ولا نملك إلا التسليم بقضاء الله وقدره رغم الخسارة الفادحة التي منيت بها كل أوساط المعرفة في المجتمع العربي السعودي، وسلوانا في فقده أنه توفي شهيدًا، نسأل الله أن يتغمد عميد المذيعين وعميد الأكاديميين الدكتور عبد الرحمن الشبيلي بواسع رحمته.
اقتنيت أخيرًا أحد كتبه الثرية كمًا ونوعًا؛ كما عهدناه رحمه الله في سائر مؤلفاته، وكان أبرز ما لفت نظري في هذا الكتاب هو وصف المؤلف نفسه على غلاف الكتاب، فلم يكتب تأليف إو إعداد أو جمع أو تصنيف أو غير ذلك من المصطلحات الدارجة، وإنما كتب عناية عبدالرحمن الشبيلي (لن أذكر عنوان الكتاب طمعًا في أن يستعرض القارئ الكريم أكبر مجموعة من مؤلفات المرحوم بحثًا عن ضالته).
لعل هذا الوصف أبلغ ما يمكن أن يوصف به الأديب الراحل، فقد كان رحمه الله مثالاً ورمزًا للعناية في كل جوانب حياته وفي كافة مراحلها؛ فكان يولي كل مهمة يتولاها هذه العناية، ويكرم ويشمل كل من عرفه أيضًا بهذه العناية، التي لا تفتأ تأتي مقترنة بأجمل صفات النبل والوفاء والإخلاص ومجموعة من القيم النبيلة؛ تأتيك في باقة شاملة مغلفة بخالص الود وجليل الاحترام ووافر التقدير وشديد الاهتمام (والعناية) التي أسبغها الدكتور الشبيلي على كل من عرفه عن قرب.
لن أتطرق إلى مدى ومدة معرفتي به رحمه الله، ولا إلى المواقف العديدة التي شملني فيها بلفتاته الأبوية الحانية؛ فما كتبه محبوه في شمائله وأخلاقه غيض من فيض يملأ المجلدات، وما تركه من إرث في الأدب والإعلام واللغة والتاريخ وغيرها من علوم الحياة الإنسانية سيملأ حياة الباحثين والدارسين والأساتذة جميعًا، لكنني سأتطرق بالقارئ الكريم إلى موقفين له يرحمه الله؛ يعكسان بعض جوانب شخصيته الفريدة.
كان والدي يرحمه الله مساهمًا في مؤسسة الجزيرة للصحافة، ورغب في ذلك الوقت -امتثالاً لتحديث طرأ في نظام المؤسسات الصحفية لم يكن قد صدر بعد وهو حظر الجمع بين ملكية مؤسستين صحفيتين في آن واحد- أن يبيع حصته في مؤسسة الجزيرة ويحتفظ بحصته في مؤسسة اليمامة، وكان أن أبدى د. عبدالرحمن رحمه الله رغبته في الشراء، ولأن طبيعة علاقة د. عبدالرحمن بوالدي رحمهما الله كانت أخوة خالصة؛ فقد حضر الدكتور إلى منزلنا لتسليم المبلغ، إلا أنه فوجيء بانقطاع التيار الكهربائي، وبالتالي لم يتمكن من قرع جرس الباب؛ الأمر الذي عالجه رحمه الله بالطرق بيده على باب المنزل الخارجي لمدة تزيد عن نصف ساعة، حرصًا منه على تسليم المبلغ في موعده، وكان المبلغ يشمل عددًا من الشيكات الصادرة من أكثر من مشترٍ اشتركوا مع الفقيد في الشراء، فجسّد رحمه الله أشمل معاني (العناية) في الحرص والأمانة والصبر والأخوة والإصرار على تسليم والدي ثمن المبيع يوم تسلمه من المشترين الآخرين؛ تأكيدًا لانتظامه وتنظيمه و(عنايته) بوضع الأمور في نصابها وأداء الحقوق في وقتها؛ فرغم أن يومها كان أربعاء وعطلة نهاية أسبوع الخميس والجمعة ولا عمل في المصارف فيهما، ورغم أنه كان بإمكانه ترك المكان والعودة في اليوم التالي، إلا أن سمو أخلاقه ومهنيته وحرصه (وعنايته) منعته من الأخذ بالخيار البديهي والأفضل له في الاستفادة من وقته.
الموقف الثاني كان بعد سنوات من وفاة والدي رحمه الله؛ فقد اقترح عدد من أصدقائه أن أقوم بجمع مقالاته وإصدارها في كتاب يتيحها لقرائه ومحبيه، وتوجهت للدكتور رحمه الله لاستشارته في العمل المقترح؛ فأشرق وجهه بالرضا والبهجة؛ ليس فقط بعمل جديد سيضاف إلى النتاج الأدبي المحلي وإنما -طبقًا لوصفه- باهتمام الأبناء بنشر أعمال الآباء وتخليد ذكراهم. وأكرمني رحمه الله بالعديد من النصائح حول جمع المقالات وكيفية البحث والتأكد من شموليته لكافة المقالات وكافة الصحف والمجلات التي نشرت مقالات الوالد.
لن تتسع المساحات المتاحة سواء صفحات ورقية أو إلكترونية لبث ما تحمله القلوب من أسى لفقد أبي طلال رحمه الله، لكنني سقت الموقفين اللذين ذكرتهما لمشاركة القارئ الكريم إحساسًا بحجم الخسارة التي منيت بها شخصيًا، ومنيت بها أوساط المعارف والثقافة في المملكة العربية السعودية والعالم العربي، نسأل الله أن يرحم أبا طلال وأن يرحم نجله طلال وأن يسكنهما فسيح جناته وأن يلهم السيدة الفاضلة حرمه وكريمتيه وأحفاده الصبر والسلوان، وأن يجعل أعماله وعلمه صدقة جارية في ميزان أعماله.
وقفة أخيرة: هي وقفة شكر للقائمين على تحرير هذه الصحيفة المتألقة وفي مقدمتهم أستاذنا خالد المالك على تكريمي ببث هذه المشاعر على صفحاتها، وتشريفي بأن تكون أول مقالة في صحيفتهم هي رثاء لقامة من قامات الإعلام والأدب في المملكة، خاصة أنه تولى قيادة هذا الكيان الصحفي الشامخ لسنوات عديدة رئيسًا لمجلس الإدارة.
** **
- طارق القرعاوي