عبدالعزيز السماري
ما زلنا أمة يطاردها الماضي في كل اتجاه، فقد أصبحت ذاكرة هزيمة وسقوط الحضارة الإسلامية العربية في القرون الوسطى لعنة تطارد العقول، وتحد من التفكير الحر، فالأغلبية يريد أن نجاهد ونغزو ونتوسع إلى أن نحكم الأرض وما عليها، بينما نحن في الدرك الأسفل في حضارة البشر المعاصرة، ولم تكن هذه الفكرة حصرًا على حضارتنا، فمختلف حضارات الماضي كانت تتوسع إلى ما لا نهاية حتى تسقط، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم تجاوزوا تلك العقدة، وبدأوا في مواكبة العصر ومعاييره، فالقوة والمناعة ليس فقط عسكرية، ولكن علمية ومعرفية، وقبل ذلك أن تدرك أن المجتمعات المختلفة تتطور نحو التعددية واحترام حقوق الآخرين.
مرت مختلف الإمبراطوريات التوسعية بنفس مشاعر الهزيمة، فبريطانيا كانت البلاد التي لا تغيب عنها الشمس، وأصبحت الآن جزيرة صغيرة تكاد لا ترى الشمس، لكنهم استطاعوا المحافظة على سلمهم الاجتماعي واستقرارهم الاقتصادي، وتجاوزوا ذلك الشعور بتعزيز أدوات الحضارة، وحقوق الإنسان والاستقرار السياسي، كذلك اليابان، فقد تعرضت لأعظم نكسة في التاريخ، لكنها عادت بقوة وبمعايير مختلفة، وتحولت إلى قوة اقتصادية عظمى، بينما تتألم الذات العربية والإسلامية، وتئن بشكل أقرب لحالة الانتحار البطيء، ولعل السبب غياب مشروع اقتصادي ثقافي ومعرفي يطرد الأفكار التي تكاد تمزق العقل المسلم، لا يوجد حاليًا في بعض المجتمعات العربية غير المشروع الجهادي التفكيري، بينما تبدو الصورة أكثر إشراقًا في السودان وتونس والجزائر.
أزمة المشروع التفكيري الجهادي أنه سلاح يقطع في كل اتجاه، وفي غاية الخطورة.. والأهم من ذلك أنه يتداول أفكارًا في غاية العنف، فهو يجيز الاستبداد والقتل والرق ويرفض مختلف أوجه التعددية واحترام الحقوق، فالحق هو لرجال الدين المجاهدين فقط، ويعني تحويل الأمن الاجتماعي إلى ساحة للرعب والعنف، وهو حراك غير طبيعي، وجاء نتيجة لتضخم آثار الهزيمة التاريخية في العقول، وبشكل غير مبرر بعد سقوط الحضارة العربية قبل ستة قرون، وقد أسهمت مناهج التعليم والتلقين في الوصول إلى هذا الواقع.
كان الغائب في هذا الحوار الصاخب أن نحدد بشكل علمي لماذا سقطت الحضارة في الماضي؟، هل كان السبب توقف جيوش الجهاد عن الغزو، أم بسبب الحرب المستمرة ضد العقل والعلم، وما نتج عنه من فشل سياسي واقتصادي، ونستطيع معرفة ذلك من خلال بحث مبسط، فأغلب علماء الطبيعة، إن لم يكن جميعهم قد تم تكفيرهم وتمزيق وحرق كتبهم، ثم العودة إلى رسائل علماء الدين ومختصراتهم وطرق التلقين تحت ذريعة حماية الدين، فكانت النتيجة سقوط الحضارة بعد تغييب العقل.
من خلال قراءة موجزة لتاريخ المأمون وما بعده، ولسيرة ابن رشد الحفيد بعد ذلك تستطيع أن تعرف لماذا تخلفنا وعدنا إلى ثقافة الرسائل الموجزة والاختصارات التي تدعو لطمس التفكير والنقد، ومن خلال متابعة متأنية لما يجري في المجتمع من ترويج لفكر العنف والقتال، تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الرسائل المختصرة، والتي تحرض على الجهاد والتكفير، وتحارب التفكير، ويقوم العوام بدور غير مباشر وغير واعٍ لنشر مثل هذه الأفكار الأحادية والعدوانية، لأنهم تعلموا منذ الصغر أن هذا هو الإسلام، ولا أرى حلاً آخر لتجاوز هذه العقدة النفسية والعدوانية والخطيرة، غير تشجيع الوعي بالحقوق وتعزيز الاقتصاد وتطوير مناهج التعليم.