د.عبدالله بن موسى الطاير
انتهت الحرب العالمية وخلفت وراءها نحو عشرين دولة في أوربا وقد آل حالها إلى ما آل إليه حال سوريا الآن، دمار في كل مكان، وحزن وتهجير وانسداد أفق، ولم تكن دولة من تلك الدول في وضع يمكنها من فرض شروطها، فقد كان الجميع يتلقى الصدقات.
حينها كانت يد أمريكا هي العليا، وقدمت الدولار في وقت عز فيه وجوده، ولكنها لم تقدم فلساً واحداً لأوروبا بدون شروط. من جملة الضمانات التي اشترطتها أمريكا عدم قبول أية إعانات من الاتحاد السوفيتي، والسماح ببناء قواعد أمريكية، والتسليم بقيادة أمريكا لقرارها أوربا الغربية الخارجي.
حينئذ فقط بدأ مشروع مارشال، ولكن على أساس مصالحة أوربية غربية، فقد كانت تلك الدول بدون استثناء في وضع يرثى له، ولا مجال لدولة في المزايدة على أخرى، وهو ما هيأ للقادة الأوربيين الجلوس مع بعضهم وإعلان عفا الله عمَّا سلف، واذهبوا فأنتم الطلقاء.
كانت يد أمريكا ممدودة بالعطاء المشروط، وكان الأوربيون قد أُثخنوا فلم يعد بإمكانهم سوى التوافق مع بعظهم البعض وبدء إعادة الإعمار بدعم أمريكي سخي.
السؤال، وفي وقت يسوق مستشار الرئيس الأمريكي وصهره كوشنير مشروعه للشرق الأوسط الذي يستهدف كلاً من فلسطين وإسرائيل والأردن ولبنان ومصر، واعداً بثورة اقتصادية ومبشّراً بازدهار ينسيهم الخلافات ويجمعهم حول المستقبل المملوء بالآمال والمحقق للطموحات، نعود للسؤال: هل منطقتنا قد استوت على الجودي، ووصلت من الوهن بحيث تُقبِّل اليد الأمريكية الممدودة، وتتصالح وتنسى خلافاتها، وتتجاوز كل المعوقات التي لطالما حالت دون هذه المنطقة من العالم والاستقرار والبناء والتنمية والازدهار؟
يمكنني أن أتحمس وأعتبر أن الشرق الأوسط يقف على مشارف عصر النهضة الموعود، وأن كل مشكلاتنا ستكون من الماضي، وأنه آن الأوان لتتنفس هذه المنطقة الحياة وتغذ السير بعيداً عن واقعها الأليم الذي جثم عليها منذ عام 1948م.
غير أن هذا الحماس سرعان ما يصطدم بواقع مختلف أيما اختلاف عن الواقع الأوربي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية.فأمريكا اليوم ليست وحدها، وإنما هناك روسيا التي أثبتت جديتها في التأكيد على مصالحها، وهناك الصين التي تعمل بهدوء في المنطقة، وهناك أوروبا التي تبدو إلى حد ما تغرِّد خارج الربق الأمريكي. بمعنى أن ما يمكن أن تقدّمه أمريكا من المبالغ الضخمة التي ستجمعها من الحلفاء يمكن أن يذهب أدراج الرياح فيما لو أن روسيا أو الصين تدخلت بإفساد المشروع. وكنتيجة لتعدد القوى المؤثِّرة فإن مجرد ترميم الشرق الأوسط سيكون مهمة شبه مستحيلة بدون خارطة طريق سياسية تسهم دول مثل روسيا والصين والاتحاد الأوربي في رسمها إلى جانب أمريكا.
حماس السيد كوشنير وطموحه السياسي وشغفه بتسجيل إنجاز يرفع رصيده كلاعب أساس على الصعيد الأمريكي يعوزه المعرفة والخبرة بتاريخ الصراع في المنطقة، وأنساق التأثير والتأثر، ودور الأيديولوجيا في تشكيل أجندات الفرقاء مما يجعل كل فريق يدين بالولاء والانتماء لكتلة أكبر يتقوَّى بها على إحباط أي محاولة للقفز فوق الحلول السياسية الجذرية لمشكلات المنطقة وبخاصة القضية الفلسطينية.
ربما يفوت على السيد كوشنير أيضاً أن هناك عدة محاولات خليجية لإعادة إعمار غزة، وأن الكثير من البنى التحتية قد شيّدت عقب اتفاقية أوسلو، وأن كل تلك المنجزات التي كلّفت عشرات المليارات من ثروات الخليج انتهت تحت جنازير الدبابات والبلدوزرات الإسرائيلية، وبعضها تم تهديمه على الهواء مباشرة.
إذا كان الأمر منوطاً بالأمنيات فإن العقلاء يتمنون أن تنجح هذه الخطة في استنبات الأمل في هذه المنطقة البائسة من العالم، أما إذا نحينا الأماني جانباً وتم التعامل بدلاً عن ذلك بواقعية، فإن خطة السيد كوشنير لن يكون لها قبول إذا لم تحل القضية الفلسطينية سياسياً وقبل كل المقاربات الاقتصادية.
لا بد والحال هذه من التحوط في إصدار الأحكام، فقد تكون هناك خطة أبعد بكثير مما نتصوّر تمت مناقشتها، وعزم من بيدهم صناعة القرار على فرضها بعدة مكونات، وبحلول غير متوقّعة كالتهجير، وتغيير الطبيعة الديموغرافية وإعادة رسم الحدود إلى غير ذلك من العمليات الجريئة التي تجعل فرض هذه الخطة ممكناً ببعض الألم.
لكن في نهاية المطاف لا يجب إغفال الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا والصين في تقويض هذه الخطة.