د.عبد الرحمن الحبيب
يوضح الكاتب اوين هيغنز أن الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة تفهم عمومًا في سياق مصطلحين: «الحرب المحدودة» أو «الحرب إلى الأبد»؛ الأول يشير إلى ضربات محدودة لزمن قصير؛ والآخر تشير إلى حرب إستراتيجية طويلة الأمد. يوفر كلاهما تأثيرًا سلميًا عن طريق منح الجمهور الاعتقاد إما أن النزاع سيكون قصيرًا ومحدودًا أو أن المعركة تشكل مصدر قلق بعيد المنال ومن ثم بعيدًا عن الأذهان. ويستشهد أنه بالنقاشات الحالية للانتخابات، بدا أن حروب أمريكا العديدة قد نُسيت، وبالكاد تم التطرق إليها.
كلا المصطلحين الحرب المحدودة والحرب الإستراتيجية مهمان لفهم دور الجيش الأمريكي في العالم، كما يقول المؤرخ العسكري الأمريكي دونالد ستوكر مؤلف كتاب «لماذا تخسر أمريكا الحروب: الحرب المحدودة والإستراتيجية الأمريكية من الحرب الكورية إلى الوقت الحاضر»، الذي صدر مؤخراً عن جامعة كامبريج ويستعرضه هيغنز (فورين بولسي).
من خلال تحدٍ استفزازي للسياسة والإستراتيجية الأمريكية، يطرح المؤلف فرضية مفادها أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ النزاع الكوري إلى وقتنا الحاضر، تظهر أن الحرب المحدودة هي في أفضل الأحوال تسمية خاطئة وفي أسوأ الأحوال طريق إلى مستنقعات تستهلك أرواح الأمريكيين وثرواتهم بينما تطلق العنان للدمار في البلدان التي خاضوا فيها.
الحجة الأساسية لهذه الفرضية هي أنه في حين أن الحروب الأمريكية المحدودة تجذب الجمهور والإستراتيجيين، إلا أنها خادعة ومدمرة؛ فالحرب المحدودة، مصطلح يستخدم بشكل غير واضح متغاضياً عن الأهداف السياسية المتغيِّرة التي يصعب فهمها وبالتالي لا يتم تفسيرها.. مع غموض التعريف والأهداف وخطة عمل متماسكة، فإن الحروب المحدودة، بدلاً من الحد من الصراع، تخلق الظروف التي تقع فيها الولايات المتحدة بدائرة لا تنتهي من الحروب مع عدم وجود فرصة لكسب السلام، مما يجعل نتائجها الفعلية معاكسة تماماً لما يفترض أن تحققه لمصالح الولايات المتحدة.
بمجرد بيع الجمهور حرب ذات هدف ونطاق محدودين - ما لم تسوء الأمور على نحو خطير لا يمكن تجاهلها- يبقى التصور الأولي لحرب محدودة، ولكن يتم استبدال الهدف تلو الآخر، مع أن نهج الحرب نفسه لم يتغير. عندما تتطور الأهداف بشكل مستمر، دون تغيير النهج العسكري فقد يتواصل الصراع دون نهاية، مما قد يؤدي إلى تآكل الدعم الشعبي.. فكلما طالت مدة الحرب، خاصة ذات الهدف المحدود، زاد سخط الجمهور.
من الناحية العملية، يقدم وهم الحرب المحدودة مكسبًا قصير الأجل ولكنه مؤلم على المدى الطويل لأن الجمود الإستراتيجي الناجم عن التقيد بنظرة غير مرنة للأهداف المحدودة يؤدي إلى حرب مستديمة، حيث يكون الهدف السياسي للصراع غير محدد أو مائعاً للغاية ويصعب تثبيته.. ويتساءل ستوكر: كيف يمكنك تحقيق النصر في الحرب إذا لم يكن لديك فكرة واضحة عن أهدافك السياسية؟
تكمن المشكلة، كما يوضح الكتاب، في أن تلك الأهداف لا يتم تحديدها بسهولة أو العمل عليها؛ ومع عدم إعادة تقييم وإعادة النظر في الأهداف السياسية، يحصل عدم مراعاة لاحتمالية النكسات العسكرية خلال عقد أو أكثر. هذا، بطبيعة الحال، يؤدي إلى مزيد من الصراع والأعمال العسكرية القصيرة النظر التي لا تأخذ في الاعتبار تأثير كرة الثلج المتمثّل في استمرار الإستراتيجية مراوحة مكانها مع استمرار الحرب دون نهاية.
يلاحظ ذلك بوضوح في العراق وأفغانستان على مدى العقدين الماضيين، فالحرب المحدودة تغري الجمهور حتى لو كان المصطلح لا معنى له من الناحية العملية؛ لقد أصبح الأول غير شعبي على نطاق واسع بمجرد انتهاء الحرب المحدودة معلنة إزالة صدام حسين ورافعة راية النصر، لكن الأهداف السياسية تطورت من تغيير النظام إلى الاحتلال، ولم تنته الحرب حتى عام 2011 وبشكل مؤقت فقط، إذ عادت مجدداً عام 2014، ولا تزال مستمرة. أما الحرب في أفغانستان، فمستمرة حتى يومنا هذا، لكنها تبقى في معظمها خارج العناوين الرئيسية والعقلية الأمريكية، ويُعتقد أنها حريق محدود بسبب عدم رؤيتها.
يرى ستوكر أن الأفكار الأمريكية للحرب تقع في مأزق تعريفي؛ إذ يكرس الزعماء السياسيون والعسكريون الأمريكيون لفكرة الحرب المحدودة لأنها أسهل طريقة لبيعها للجمهور، لكنها حرب ملزمة بطبيعتها بالأهداف الضيقة والمحدودة التي تُشن من أجلها، إلا أن الرياح السياسية والأهداف تتغير، ويسبب عدم الاستعداد للتعامل مع هذه التغيرات تتواصل الحرب للجيش الأمريكي باستمرار. إن الهدف المحدود يمكن أن يفسح المجال لهدف غير محدود بسرعة، ويجب أن يواكبه تغييرات سياسية، وهو ما لا يحصل غالباً.
أفغانستان، أطول حرب أمريكية، تعود فرق عسكرية وتذهب أخرى مراراً وتكراراً في محاولة لتحقيق هدف دائم التغير، مع عدد جثث يرتفع ببطء غير ملحوظ ليبقى بعيداً عن الأخبار وبعيداً أن تكون قضية سياسية كبرى في الولايات المتحدة. من الواضح أن قادة الولايات المتحدة، من جورج دبليو بوش إلى أوباما إلى ترامب، ليس لديهم فكرة - وعلى ما يبدو، ليس لديهم مصلحة - في معرفة كيفية الانتهاء منها، حسب ستوكر. قبل نهاية الكتاب يتساءل ستوكر، بطريقة حادة: «إذا كنت لا تعرف ما تريد، فكيف تصنع سلامًا يساعدك في الحصول عليه؟».