د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تحتضن بلادنا في هذه الأيام ملايين الحجاج من المسلمين الذين جاءوا ليؤدوا ركنًا من أركان الإسلام؛ تجلوا ووقفوا بالأمس على صعيد عرفات فشاركتهم بلادنا شرط القدرة والاستطاعة لـ{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً..}, ففسحتْ بلادنا آفاقها, وسكبت الضوء عبر بواباتها البحرية والجوية والبرية تُجلّلُ مساعيها غايات مُثْلَى منبعها عقيدة راسخة, ويقين أكيد أن ذلك الحشد السنوي المتصل بالإيمان حتمًا سوف تورقُ له أفئدتهم؛ فتلزم خدمتهم بإرادة لا تلين, واتكاء متين على أولي العزم من العاملين في مؤسسات الدولة تخطيطًا وتنفيذًا كما ولج المتطوعون من أبناء هذه البلاد ذلك الباب، فعندما يكتمل بزوغ أهلة الحج يستسقي الحجاج رحيق المشاعر المقدسة في رحلة مقدسة لا يستطيع أي كائن أن يرسم لهم معالم الدرب إلا من خلال يقينهم بمكاسبهم فيها {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَات...} حينذاك يتمدد الوعي عندهم وتحتويهم الأزمنة والأمكنة والأفئدة في بلادنا.
ففي بلادنا المملكة العربية السعودية تتلقّى الحجاج جهود متجددة، تدير دفة التطوير المشهود في قيادة مواسم الحج في نمو حثيث عامًا بعد عام، فتبدو مكة المكرمة مدينة الأنوار تُسقي ترياقها لكل طارق يؤمها, فتتجلّى فيها جهود حاضرة جبّارة لضبط ذلك المؤتمر الإيماني المتصل بعقيدة المسلمين المتمم لإسلامهم, فيشهد الحجاج في داخل المشاعر والعالم أجمع جموعاً مؤهلة تُرتبُ تفاصيل المشهد كاملاً وفق توجيهات القيادة الرشيدة؛ فإذا ما تحدث العالم عن علم إدارة الحشود فهو في بلادنا مكين أمين, وإن تباروا في أطروحات التنظيمات الإدارية فقد نالتها بلادنا في مواسم الحج باستحقاق بلا منازع؛ وإن رُصدت مواقع الأمن وحياض الحماية فإن أمن الحجاج وثائق فداء حقيقية يستظلون بها في كل شبر من المشاعر المقدسة, وإن كانت للبيئات المثالية حين الحشود أمثلة عند المنظّرين, فبلادنا حصدتْ منها أطواق سمو, وبطاقات تميز, وأوسمة شرف مُشَاهدة جلية، وإن أشاد العالم بمؤسسات الصحة فنحن في العدوة العليا منها فلم تكن منشآتنا الصحية معدّة لاحتضان العوارض المؤقتة فقط إنما بلغت شأناً عظيماً قدرة استيعاباً وإتماماً,....
فطبيعة الإنجاز في واقع المشاعر المقدسة, وتتابع المقاصد السامية في مواسم الحج وكثير من الإستراتيجيات الكبرى التي منحتها قيادتنا الرشيدة مفاتيح الدخول إلى كل الفضاءات لتيسير أداء الشعيرة على ضيوف الرحمن كل عام بتوفيق من الله ثم بعزيمة المخلصين من أبنائها, وذلك الاستمرار المتدفق, وتلك المشاريع العملاقة في المشاعر, وتلكم الحشود المؤهلة لراحة الحشود القادمة من الحجاج ثم الحصاد السنوي في كل موسم عندما تسطع أضواء المنجزات في الآفاق, ويعلو صوت الاستحقاق إعلاميًا في أنحاء العالم بأن خدمة ضيوف الرحمن شرف لبلادنا الذي تسمى به قادتنا وتساموا به، كما أن مواقفنا الثابتة منذ الأزل تجاه ألوية الحجيج التي برعت فيها قيادتنا الحكيمة حين نجحت في صناعة التنسيق بين قطاعاتها المختلفة لتحقيق خدمات متميزة لضيوف الرحمن، كما أبدعتْ بلادنا في قيادة مراحل أداء النُسُك بكفاءة واقتدار, وكان لها شرف المكان والشعيرة واستباق الفضل في ذلك. ولعل من حديث الواقع حين نقول إنَّ خدمة حجاج بيت الله أصبحت جزءاً من هوية بلادنا، ومن صِلاتها بالآخر، ومن رموز حضارتها ومكوناتها الفكرية، ومن مفاخرها. فاجتماع العالم هنا في قلب العالم الإسلامي تلبية لداعي الله, هو شرف لا ندّعيه بل حقيقة ماثلة لا تملكها دول العالم قاطبة تُرى رأي العين, كما أن بلادنا بلغتْ في العناية والاهتمام بمواسم الحج ما لم يبلغه تنظيم أو حشد دولي آخر لسمو المقصد ونبل الهدف إضافة لارتباط تلك الشعيرة بعقيدة المسلمين وتمام دينهم, فخدمة الحجاج هي خدمة للإسلام والمسلمين, وتأسيسًا على ذلك التفرد الذي يُسطّر بمداد من الذهب أعواماً عديدة ممتدة؛ وفي كل عام تبرز الجهود شامخة تحزم عزائم القوة فإننا نتوقُ أن يُكتب تاريخ الحج ومواسمه في بلادنا وفق المنهجية العلمية التي تسطر بها الملاحم الخالدة في توثيق تاريخ منجزات الشعوب، وأن يسجل صوت العالم نحو جهود بلادنا في مواسم الحج كوثائق استدلال تاريخية ضمن مشروع توثيقي عملاق، ولعل وزارة الثقافة ووزارة الإعلام ودارة الملك عبدالعزيز يتبنون الفكرة لإنجازها ضمن مشروع وثائقي بحثي في أجزاء ومراحل..
حفظ الله قيادتنا الرشيدة حفية بحجاج بيت الله وموجهة وداعمة، وبلادنا التي سمتْ وتسامتْ في مواسم الحج في عهودها المختلفة وعهدنا الزاهر المورق، وتقبل الله من الحجاج مناسكهم.
«أهيمُ بروحي على الرابية
وعند المطاف وفي المروتين
وأهفو إلى ذكرى غالية
لدى البيت والخيف والأخشبين»
.. طاهر زمخشري