أ.د.محمد بن حسن الزير
تلقى الجميع ببالغ الحزن والأسى نبأ رحيل الأخ الفاضل الدكتورعبدالرحمن الصالح الشبيلي؛ ومع إيماننا بأن الموت حق علينا، وله أجله ومكانه المقدر الذي لا يتخلف لا تقديما ولا تأخيرا، إلا أنه يبقى هناك مساحة للحزن والتذكر، وتبقى في ديننا السمح رحابة لفيض مشاعرنا، وخلجات قلوبنا، قاصدين ألا نقول إلا ما يرضي ربنا.
الفقيد الغالي (الشبيلي) عرفته منذ زمن بعيد.. أبو طلال، تلقاه لأول مرة وتتحدث معه ويتحدث إليك؛ فإذا به يتسلل إلى نفسك روحا وقلبا وعقلا؛ فلا تملك إلا أن تحبه، ولا تملك إلا أن تقدره؛ بسبب ما تلقاه في لُقَاه من روح وقلب وعقل؛ فهو قبل كل شيء، إنسان بروح وقلب وعقل على الفطرة، بلا تكلف أو تصنع.. تلقاه فيلقاك بوجه باش ومحيا هاش، وبابتسامته الخفيفة الهادئة.. التي تشف عن نفس كريمة، ورح قويّة معطاءة، إن لقاءه يمنحك هدوءا وشعورا بالسلام والأريحية، ويفيض إلى روحك سلاما وأريحية وحبورا.
إن الإنسان الشبيلي شخصية إنسانية مفعمة بالخلاق الحسن، وذات سلوك مغموس بذلك الخلاق السامي الحميد؛ إن خلقه الحسن النابع من ذاته الطيبة الخيرة، هو جواز مروره السهل الممتنع إلى قلوب عارفيه ومحبيه، وكثير ما هم!
عطاء حتى النهاية!
الإنسان الشبيلي شخصية معطاءة بلا حدود، وعطاؤه لا يتوقف عند شخصيته الإنسانية الخلوقة على أهمية ذلك وسموه؛ فقد كاد حسن الخلق أن يذهب بخيري الدنيا والآخرة؛ كما قال نبينا، صاحب الخلق العظيم، صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه، فوق ذلك، قدم نموذجا في عطائه العملي الإعلامي والإداري في مواقع العمل المختلفة منذ فترة مبكرة من حياته؛ بوصفه إعلاميا متألقا في إذاعة الرياض ومن بعد في التلفزيون، وما قدمه فيهما من برامج ومواد إعلامية وحوارات، ومن خلال أعماله العلمية وإنتاجه البحثي والتأليفي والفكري والثقافي المتنوع الذي تعدى 55 كتابا ومؤلفا كبيرا ومتوسطا وصغيرا، جذَّر بها تواصل أثره في الحياة الفكرية والأحياء من حوله، وهو ما يعكس ما تتمتع به شخصيته من روح الصبر والمثابرة والإلحاح على العطاء للحياة والوطن، والحرص على الإنجاز المفيد الممتع، بلا كلل ولا ملل.
وأود هنا أن أربط هنا بين عطائه المتواصل، وروح تواصله مع الناس والوطن والحياة، من خلال كتابه الأخير (مشيناها.. حكايات ذات) وأعني تلك الهمسة التي أفضى بها الكاتب، وهو يتحدث عن كتابه (مشيناها..) وهو يقول: «.. لم أكن مقتنعا في يوم من الأيام بالإقدام على كتابة هذه السيرة، وقد اختمرت فكرتها بعد أن أكرمني الوطن بالوسام، هنا ازدادت الدعوات بأن أقدم على كتابتها، وكان المسوغ لهذا الطلب هو أن صاحب الكتاب كتب سيرًا أخرى وبالتالي من حق المجتمع أن يتعرف على سيرته» إنه يعبر عن شعور الامتنان بما غمره الوطن من تكريم بمنحه وسام الملك عبد العزيز من (الدرجة الأولى) في المهرجان الوطني للتراث والثقافة الواحد والثلاثين؛ فهذا التكريم حفز فيه دوافع البوح بصدق وصراحة لتأكيد تواصله مع هذا الوطن إنسانا ومكانا وتجارب وذكريات، وتفاعلا مع هذا المجتمع الذي لا يزال يتلقى منه الرغبة في التلاقي ومزيد المعرفة!
وها هو يشركنا في خلجات نفسه عن نفسه وهو يكتب ذلك البوح فيقول عن روح العطاء المستقر فيه منذ النشأة:».. لنشأة لم يكن فيها فرصة تسلي أو فائض زمن، إلا وظّفتُها في عمل مرادف، فقد اعتدتُ أن يضيق بي بالفراغ، وأن أستثمر بواكير الأيام وساعاتها الضائعة، وأن أجعل قيمة التقاعد تنافس ما قبلها، حتى صار البعض يقول: «ليته تقاعد من زمن...!».
هل كان أبو طلال يرثي نفسه؟!:
لقد ظل أبو طلال - رحمه الله- محافظا على هذه العلاقة الإنسانية الأخلاقية مع محيطه الإنساني؛ هذه العلاقة المضمخة بمشاعر المودة والتواصل النفسي قبل أي شيء آخر، وفي الوقت نفسه هي علاقة مدموغة بإحساسه الذاتي العميق بوجوده في إطار زمني يجري به إلى خط النهاية حين دفعه هذا العامل الذاتي النابع من طبيعة هذه النفس المتواصلة مع محيطها؛ من خلال كتابه الأخير؛ سواء من خلال هذا العنوان العاكس لحياتنا الموجودة في مجرى الزمن الذي لا تستطيع أن تتخلص من الجريان الحتمي معه إلى الأمام، وإن شئت فقل إلى النهاية؛ فما حياتنا، في الحقيقة والواقع، سوى دفن مستمر لوجودنا، ثم لاحظ معي هنا صيغة فعل الزمن (الماضي) مشيناها! وهي رسالة خفيَّة من الكاتب لنا جميعا؛ فهو لم يقل «مشيتُ» بل قال» مشينا»! ثم هو يستدعي لذاكرتنا قول الشاعر (عبد العزيز الدريني) بكل إيحاءاته وتداعياته النفسية:
مشيناها خطا كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطا مشاها
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
وهي من قصيدة الدريني التي يتحدث فيها عن الحياة والموت وقدر الإنسان، ويقول فيها:
عجبت لمن يقيم بدار ذل
وأرض الله واسعة فضاها
فذا ك من الرجال قليل عقل
بليد ليس يدرى ما طحاها
فنفسك فز بها إن خفت ضيما
وخلى الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضا بأرض
ونفسك لا تجد نفسا سواها
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
وهذا الإحساس الوجودي الخفي استشعره صديقنا وصديق الراحل (الدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن التركي) في الرسائل الأخيرة التي تلقاها من العزيز الراحل أبي طلال في الأيام الأخيرة قُبيل رحيله إلى العالم الأبدي في رحاب الله الكريم الرؤوف بالعباد، جلّ جلاله؛ فقد كتب أبو يزن عن هذا الاستشعار يقول: «.. لم يكن صاحبكم قادرًا على تفسير رسالته الأخيرة التي تواصلا بها قبل أيام؛ فقد بدتْ أشبه برثاء نفسٍ ارتبطت بعطاء معرفي وإنسانيّ وعزَّ عليها أن تفقده، أو كأنه أحسَّ أن قلمَه ليس ما اعتاده وذهنَه غير ما روّضه وبحثَه تراجع عما عهده، وهو إحساسُ ذاتٍ راقيةٍ ترقي الوهنَ ولا تُسترق له، والحكاية تبتدئُ من ثلاث رسائل متبادلة بين أبي طلال وصاحبكم من موقعيهما خارج الوطن خلال شهر ذي القعدة 1440هـ- يوليو «تموز» 2019م -، وجاء نص الرسالة الأولى من باريس في 2019/07/17م:
أخي أبا يزن:
(طاب مساؤكم، طُلب مني إعداد بحث عن الإعلام»...» وبعثته بأمل تفضلك بالاطلاع عليه واقتراح المفردات التي تحتاج إلى تعميق بمزيد من التحليل، شاكرًا). وكانت إجابة صاحبكم امتنانًا لثقته «المتجددة»؛ فقد تشرف بمراجعة معظم تآليفه وأوراقه وبحوثه فأضافت إليه ولم يُضف إليها، وبعث إليه في اليوم التالي 2019/70/18م ردًا جاء فيه: (أستاذي وصديقي أبا طلال: أسعد الله يومك.. (بحث مكتمل لم أجد فيه ما أستطيع أن أُكمله أو أُلاحظه، ومن باب ألا تعود رسالتي خفيفة أرفقها بما يلي: «....»).
إن أبا طلال (هنا) مرة أخرى، يقدم نفسه بروحه المبادرة المعطاءة حتى آخر رمق في حياته، ويواصل عطاءه العلمي، وإنتاجه الفكري، وجهده البحثي غير مبال بعناء السنين ولا بتعب المثابرين؛ ولا بنصائح الناصحين المشفقين عليه، من جهده المتواصل بلا حدود! ومن بعض ذلك ما حدثنا عنه (أبو يزن إبراهيم التركي) بقوله: «وكنا نشفق عليه من إرهاقٍ يضني قلبه المكدود مجاملةً لصديق أو تلبيةً لواجبٍ، بل إنه في الأسابيع القريبة قبل إجازته الصيفية زار ثلاث مناطق داخلية خلال أقلَّ من أسبوع، ولم تكن بينها رحلةُ عمل، وفي يوم مغادرته إلى فرنسا ذهب إلى عنيزة لعيادة مريض، وعاد من مطار القصيم مباشرة إلى مطار الملك خالد، وقبل ذلك التقيا في زيارة أحد كبار أدبائنا في الرياض وفاءً منه بالرغم من تكثيف التزاماته..».
وهكذا كان أبو طلال- يرحمه الله - لا يدخر اللحظة الغالية؛ بل يمنحها في سبيل أن يظل عطاؤه متواصلا إلى آخر ما في (الجَعْبَة) وها هو يرحل عن دنيانا وقد أوشك أن يفرغ من آخر أعماله العلمية عن الإعلام السعودي هذا الإعلام الذي أعطاه كل حياته حتى الثمالة! ويظل مشعلا سراجه حتى الذبالة! وكان لسان حاله يقول مرددا نفثة (طرَفة بن العبد):
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي!
رحمك الله - يا أبا طلال -رحمة واسعة، وعفا عنا وعنك، وجمعنا بك في مستقر رحمته، وعزاؤنا لأهلك وذويك ومحبيك ومريديك، بعظيم الأجر وجبر المصاب! والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، و«إنا لله وإنا إليه راجعون»!