د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
كان نزول القرآن بالعربية نعمة من نعم الله عليها؛ إذ رفع من شأنها وجعل أفئدة من الناس الناطقين بها أو بغيرها تهفو إلى تعلمها وتفخر بإتقانها؛ فهي السبيل إلى حسن تلاوته وفهمه. ثم نشأت لتلبية فهم أغراض العقيدة والشريعة جملة من العلوم التي تعالج جوانب النص القرآني، قراءاته ورواياتها، تفسيره وتأويله، استنباط دلائل العقيدة وأحكام الفقه والمعاملات، لغته نظامها الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي، وكان نظام اللغة بالجملة يعرف بالعربية، وظهر هذا النظام أول ما ظهر مدوّنًا في كتاب سيبويه الذي هو جماع ما ثقفه من أشياخه وثمرة محاوراته مع أستاذه إمام العربية الخليل بن أحمد وما أفاء الله به عليه من فكر وتأملات في استعمالات العرب لغتَهم.
نشأت أجيال المتعلمين من القدماء على تلقي العلوم العربية والشرعية، فهم يختلفون إلى شيوخ هذه العلوم يتزودون بزاد مشترك، حتى إذا آنس المتعلم منهم ميلًا إلى علم من تلك العلوم جدّ في طلبه واختلف إلى أشياخه حتى ينال الإجازة فيه، وهو مع ذلك يكون على سبب من علم أو علوم أخرى، ولذا ترى النحوي القارئ، والنحوي المفسر، والنحوي الأصولي، والنحوي الفقيه، والنحوي الفلسفي، ولهم من الاتجاهات العقدية والفكرية ما تنزع بأفكارهم أو توجه فهمهم، فهذا سنّي وهذا شيعيّ وهذا أشعري وهذا معتزليّ، وهذا حنفي وهذا شافعي أو مالكي أو حنبليّ.
عرف تاريخ العربية طائفة كبيرة من النحويين الذين تميزوا بعلمهم وتعليمهم وتآليفهم، وما كانوا ليصلوا إلى مكانتهم التي وصلوا إليها لولا المصادر الأولى التي استقوا منها، ما روي من القرآن والأحاديث الشريفة وما سمعوه من العرب من نثر وشعر، ثم ما ثقفوه من النظرات الثاقبة والتأملات الدقيقة في لغة كل تلك النصوص، إلى روافد أخرى مما تلقوه أثناء الطلب، وكان للثقافة النحوية جانبان مهمان أحدهما نظري ابتدأ بالوصفية ثم آل إلى المعيارية التي يقتضيها التلقي اللغوي مهارات وعلومًا؛ وجانب تطبيقي اتخذ من لغة القرآن ميدانًا رحبًا، فكان إلى جانب تفسيره وتأمل دلالاته؛ إعرابُ آية والتأملُ في طرائق إبلاغه وبلاغته، فلم يكن درس العربية ونظامها محصورًا في كتب نحوية خاصة بل اتسعت دائرة القول فيه حتى إنك تجد مسائله مطروقة في كتب التفاسير وفي كتب أخبار المجالس والمناظرات وتراجم النحاة، وعلى نحو ما نشأ الخلاف في الفقه والعقيدة نشأ الخلاف في قضايا النحو، وما كان لينشأ مثل هذا الخلاف لولا اختلاف العلماء أنفسهم في روافد ثقافتهم التي تؤثر في طرائق تفكيرهم وتلون أصول ذلك التفكير، وإن من أجل الأمور وأهمها في تاريخ الثقافة النحوية الكشف عن تلك الروافد.
ومن هنا تأتي أهمية كتاب «أثر الروافد الثقافية في التنظير النحوي» الذي أعده الباحث الدكتور: سعد بن عبدالله بن عبدالرحمن المحمود، وكان لي شرف معرفة هذا العمل الجليل منذ كان فكرة في ذهن صاحبه ثم تابعت خطوات جمع مادته ومعالجتها وصياغتها، حتى انتهى إلى إنجاز ما أنجز بما وهبه الله من صبر وأناة وسعة اطلاع على مظان مادته المتفرقة في تضاعيف الكتب المطولة في الميادين التراثية المتعددة،
ولولا ما تحلى به الباحث النجيب من خلق الباحث ودأبه ومثابرته لنكص عن دربه واثّاقل عن الوفاء بمقتضياته.
أدار الدكتور سعد المعالجة في كتابه حول أهم أربعة محاور للدرس النحويّ، فجاء الفصل الأول لدراسة «أثر الروافد الثقافية في الأصول النحوية»، والفصل الثاني لدراسة «أثر الروافد الثقافية في المصطلح النحوي ومناهج التأليف»، والفصل الثالث لدراسة «أثر الروافد الثقافية في القاعدة النحوية»، والفصل الرابع لدراسة «أثر الروافد الثقافية في الشواهد والأمثلة النحوية»، وهذه فصول متدرجة تدرجًا عقليًّا مقنعًا، آخذة مفرداتها بعضها بحُجُز بعض.
وأما الأصول النحوية فهي مُعتمَد التقعيد الذي يبدأ باستقراء اللغة بالسماع المباشر من أهلها أو بما هو بمنزلة السماع من رواية الثقات، ثم وصفها وصفًا دقيقًا فاستنباط نظامها في مستوياته المختلفة صوتًا وصرفًا ونحوًا اعتمادًا على جمهرة استعمال أهلها، فإذا كان ذلك جاء القياس بعدُ على ما قُعّد حسب ما استقر من استعمال جمهرتهم، فساغ من الألفاظ والتراكيب ما لم يرد السماع به؛ لأنه جارٍ مجرى ذلك المسموع مقيس عليه فهو منه، وأما ما يخالف المقيس عليه من مسموع فإن اطرد استعماله عندهم قدّم إذ لا قياس مع السماع.
هذان أصلان أساسيّان السماع والقياس وأما سواهما من إجماع أو استصحاب حال فهما معتمدان في حقيقتهما على السماع والقياس وأما الاستحسان فهو أقرب إلى استعمال الفقهاء لا النحويين.
تناول المؤلف تفاصيل كانت مدار الدرس، فبيّن أثر الروافد الثقافية في أقسام السماع وأحكام النحاة عليه فهو يقف القارئ على قضية (المتواتر والآحاد)، و(المرسل والمجهول)، و(مَن تقبل روايته ومَن ترد)، و(أثر الروافد الثقافية في التحمل والأداء) وكل ذلك متأثر بثقافة علوم الحديث وأصول الفقه التي هي أسبق تدوينًا من أصول النحو، وأما أثر الروافد الثقافية في القياس فهو يقفنا على أثر الروافد الثقافية في القياس والعلة عند طائفة من النحاة كابن جني والأنباري وابن مضاء القرطبي والسيوطي، وهو إنما وقفنا على هؤلاء لاتضاح أثر الروافد الثقافية على مواقفهم وأقوالهم.
وهو لا يكتفي بالأصلين النحويين المعتبرين بل يمضي لبيان أصول أُخَر لم يتفق على أنها من أصول النحو. يقفنا المؤلف على أثر الروافد الثقافية في الإجماع وفي حجيَّته، ثمّ أثر الروافد الثقافية في استصحاب الحال وأثر الروافد الثقافية في الاستحسان. ويلتفت إلى ما يتعلق بهذه الأصول والأدلة فيبين أثر الروافد الثقافية في التعارض والترجيح فيها، فيقف على تعارض السماع والقياس، وتعارض استصحاب الحال ودليل آخر مع أن شرط الاستدلال بالاستصحاب تخلف ما يستدل به من سماع أو قياس؛ لأنه إبقاء لحكم الظاهرة كما هي عليه، وينتهي بعد ذلك إلى ما تقتضيه معالجة الأدلة وتعارضها إلى ترجيح دليل على دليل.