د. عبدالحق عزوزي
إن البيئة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية للنظام الدولي، أصبحت ذات طبيعة فوضوية ومعقدة، والعالم بدأ يتغيّر بسرعة فائقة، وبوتيرة أكبر؛ ولم تجذَّر على أرضية يمكن أن توصف بالديمومة أو الثبات؛ وبدأ منظرو العلاقات الدولية يصابون بالحيرة أكثر من أي وقت مضى، وقد تراءت إليهم محدودية نظرياتهم عن الأنظمة الإقليمية والدولية، وهي في أصلها متغيِّرة وانتقالية على الدوام، وتحاول تَوَقُّع نظام دولي أو إقليمي له محددات كافية لتثبيت الاستقرار؛ كما أن معظم المحلّلين الأنثروبولوجيين والسياسيين باغتتهم التغيّرات المجتمعية في معظم دول العالم.
ولا جرم أن الإحاطة بالآثار المرتقبة لهذا النظام الدولي العالمي أمر صعب؛ ولكن صانعي السياسة في حاجة إلى وضوح الرؤية ليضمنوا إعادة تشكيل ما أسميه «البيئة الحامية للأوطان»؛ وإن فهم هذه البيئة الجديدة ذات المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية - وحتى تتضح لنا الرؤية ونبتعد عن القشرة، أو الهامش، إن لم نقل النافل من الحدث - يتطلب الإلمام بالمنظومات الفرعية المتنوّعة، وتبني سياسات أو إستراتيجيات تركّز بشدة على القشرة الحامية للدولة، والضامنة للاستقرار والازدهار ...
فالقوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت مثلاً أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة ... فلم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق، ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامى الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامى دور الأفراد في العلاقات الدولية. فكثيرة هي الأسئلة التي نطرحها مع زملائنا المختصين في سوسيولوجيا العلاقات الدولية: فأما السؤال الأول فيرتبط بقدراتنا الخاصة على قراءة العلاقات الدولية التي أصبحت جد معقدة. وأما السؤال الثاني فيخص التمييز الذي أمسى أكثر فأكثر غموضاً بين ما قد يرتبط بالمجال العقلاني والمجال اللا عقلاني. والإجابة عن السؤالين يحيلان طبعاً إلى دور الإستراتيجية ودور الإستراتيجيين في المجال البيئي المحلي والجهوي والدولي المعقد.
ونتذكر هنا نظرية التنبؤ التي جاء بها الأستاذ ريتشارد ثالر، وهو أحد الآباء المؤسسين للاقتصاد السلوكي، وقد فاز في السنوات الأخيرة بجائزة نوبل في الاقتصاد وينتمي ثيلر إلى التيار الفكري الليبرالي الذي جسده ميلتون فريدمان الذي حاز بدوره على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976 .
وللحاصل على جائزة نوبل والأستاذ في كلية «شيكاغو بوث» للأعمال، كتاب قيم بعنوان «التنبيه» (Nudge) الذي ألفه بمشاركة كاس بي سانستين وحقق أعلى المبيعات في العالم كما نجح الكتاب في البحث عن الأسباب التي تدفع الأشخاص للاختيارات السيئة أو غير العقلانية في قراراتهم.
دائماً ما أكون مصفقاً للمنظرين الواقعيين العقلانيين في كل المجالات، خاصة عندما تخترق نظرياتهم البحار والقارات وتكون نظرياتهم ذات حمولة فكرية كبرى؛ ولعل ذكري لثالر يجسد ما يمكن لأناس جادوا وأجدوا في عملية التنظير من التأثير على مجريات التاريخ؛ فنظريته عن «التنبيه»، التي صاغها بنفسه، يمكن أن تساعد الأشخاص في السيطرة على أنفسهم بطريقة مثلى. إلى درجة أن أبحاث هذا الخبير الاقتصادي أدت بالحكومة البريطانية لتأسيس «وحدة للتنبيه»، متبوعة بإجراءات مشابهة في دول أخرى وعلى رأسها أمريكا التي فهمت أن أبحاث هذا الخبير لمما سيحقق توازنها الاقتصادي وقوتها الاستباقية في رصد المشاكل ومعالجتها قبل فوات الأوان.
ويقيني أننا يمكن أن نطور هاته النظرية لتأخذ أبعادا جيو - سياسية؛ فمسألة التنبيه في العلوم الجيو- سياسية قد تؤثّر إيجاباً على المجال السياسي العام وعلى النظام العالمي لأنها قد تنبه الجميع على مخاطر بعض السياسات وعلى بعض التوجهات الفكرية وستساعد صاحب القرار على أخذ السياسات العمومية الصائبة والنظر بعيداً لما يمكن أن يحقق رخاء الشعوب والأمصار، وعلى التجاوب مع متطلبات الجميع ...
وقد تنبه لهذا الاتجاه الخبراء الذي حلّلوا الإرهاب الدامي الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً؛ فعندما يصبح الأجانب رهائن لحسابات سياسوية وأمنية تخلط بين الأخضر واليابس، بين الهجرة والإرهاب، وبين الإدماج والمخدرات والجريمة فهنا المصيبة الآزفة والداهية العظمى، إذ تصبح الأفكار التي تتغذى منها كالعنصرية والتطرف، والقومية والاستعلاء والخوف من الأجنبي لها قاعدة كبيرة في المجتمعات الغربية، لأنها سريعة الولوج إلى أذهان الغربيين، خاصة مع الأزمات اليومية التي يمر منها الإنسان الغربي.