مصعب الداوود
تُصافحك الطبيعة بأشجارها، وتُكرمك بثمارها، وتنشُرُ النسيم العليل الصافي، وتبستم للزائر مظهرةً ثوبها الفاتن، عندما تراها لكأنك تُحس أن جنان الأرض قد جُمعت فيها، ينساب الماء فيها مكوناً آثاره الخالدة، ومحدثاً تلك البقع الصافية التي تكون نظامًا بيئيًا تجتمع عليه قطعانُ الماشية، تتأمل في تلك الجنان وتود لو أن الشمس لا تغيب أبداً، حتى يزاحمُ الليلُ النهارَ، وينتظر الحادي يومًا جديدًا أملاً في التقاط ذكرياته المصورة التي تنسيه لهيب الشمس وظمأ الهواجر عندما يرجع إلى مدينته ذات الجو اللهيب، ثم تستمر تلك الصورة الخضراء اللتي رُسمت بيد الخالق الرازق الذي أعطى لعباده نعمة البصر كي يستشعروا تلك النعم، تُستكملُ تلك الصورة طوال أيام الصيف، حتى إذا ما أتى الخريف رأيت تلك الأغصان وقد ذبلت، وتلك الأشجار وقد سقطت، لقد بكت الطبيعة حيث لم تبكِ السماء بنزول المطر، وفقدت أصحابها الذين طالما تغنوا بها وبجمالها، فأصبحت ضعيفة هزيلة لا تقوى على مقاومة رياح الخريف. إنها بحق قصة معبرة عن حال تلك الطبيعة الخضراء التي انقلبت إلى لون الصحراء المصفر، لكن ولأن من سنن الحياة عدم الثبات على حال واحد ولأن فصول السنة هي أربعة فصول، فإن الشتاء يَقدُمُ بتلك الثلوج البيضاء، ماسحًا آثار الخريف ومُخفيًا لها حتى لا يشعر محبو الطبيعة باصفرار الأزهار ولا باضمحلال الثمار، تُجبرُ الطبيعة محبِيها على لبس الصوف وارتداء (الملون) من الثياب وهي مرتدية (البياض) الناصع وكأنها تذكر زوارها بأن بياض الداخل أهم من الخارج، وتذكرهم كذلك بأحبابهم أقاربهم حيث يتسمر الأحباب والأصحاب حول شعلة من نار ويتجاذبون غرائب القصص وعجائب الزمان، ولكي يحلو ذلك الحديث لابد من تحضير الساخن من الشراب الذي يحلي تلك السمرة ويُجمل تلك الجلسة. ولأن الأيام لا تدوم على حال، فها هو الزمان يعود مرة إلى موسم الربيع، حيث الطبيعة لا تعرف ظمأ الهواجر فهي لا تعرف إلا ثلاثة فصول وهي الربيع والخريف والشتاء، وكل من تلك الفصول لديه ما يتميز به، إلا أن الربيع أثار أشجان الشعراء الذين طالما قاموا بالغناء على أوتار الطبيعة الخلابة، ويكفي أن لبنان بجبلها الأشم ذي الطبيعة الخلابة يكفيه أنه أخرج كبار الكتاب الذين لم يكونوا ليخرجوا لو لم يروا تلك الطبيعة، ويكفينا الكاتبان الكبيران جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغيرهما الكثير من الكتاب.