د. حمزة السالم
إن ديناميكية السياسة المالية والنقدية وأثرها وتفاعلها مع الاقتصاد العام المحلي والدولي، لم تتبلور وتُفهم تماماً على المستوى الأكاديمي إلا حديثاً -في الثمانينات-، وخاصة السياسة النقدية (وذلك بسبب تأخر فهم آثار انفصال ربط العملات بالذهب). وتبلور معرفة هذه الديناميكية لنظام النقد، اليوم، هي التي جنبت الآثار المدمرة التي كانت حتمية بسبب الأزمة الاقتصادية في عام 2008 ، كما حدث في الكساد العظيم 1929- 1939م. فالذي أنقذ الاقتصاد في هذه الأزمة هو النقد، بخلاف عمليات إنقاذه في الكساد العظيم، الذي قام على ابتكارات تحفيز الإنتاج الحقيقي التي هندسها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، والتي لا تزال عماد الحلول والدراسات والاستشارات والحلول الاقتصادية، فيتغير شكلها وزخرفتها، بينما يبقى جوهرها بعض إبداعات الرئيس العظيم المشلول.
الاقتصاد الكلي ينظر لإنتاجية المجتمع كله السلعية منها والخدمية، التي يُنتجها مجتمع ما فوق أرض بحدود محددة، وتحت سلطة نقدية ومالية موحدة. فالتجارة الدولية، من الاقتصاد الجزئي، وصناعة السيارات من الاقتصاد الجزئي، بينما إنتاج بلد، صغير فقير، من السلع والخدمات يُعد من الاقتصاد الكلي. فالتقسيم بين الاقتصاد الكلي والجزئي لا علاقة له بحجم الاقتصاد إنما بشموليته للإنتاج البشري. ولذا ضُمت السياسة المالية والسياسة النقدية للاقتصاد الكلي، لتداخل أي تصرف من السياسيتين، مع غالب أوجه إنتاج المجتمع، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
فماذا يدرس الاقتصاد الكلي؟ يدرس الاقتصاد الكلي الطلب العام والعرض العام للمجتمع، من أفراده وشركاته وحكومته على السلع والخدمات، وأثر تفاعلهما على السعر العام. فلذا؛ ألحقت السياسة النقدية والسياسة المالية بالاقتصاد الكلي. فالنقد يدخل في كل من الطلب الكلي والعرض الكلي، وكذلك ضريبة الدخل ونحوها من الضرائب الشاملة أو شبه الشاملة. فهدف الاقتصاد الكلي تخفيف البطالة، وأما مواضيعه التي تخدم هدفه فهي كثيرة، منها: التضخم والضرائب والنقد.
ويُدرس الاقتصاد الكلي، المجتمع كاقتصاد مغلق معزول عن التبادلات الخارجية الدولية، كما يدرسه كاقتصاد مفتوح يتفاعل مع اقتصاديات العالم. ولكل الدراستين حالاتها التي تصلح لها. وإن كانت دراسة الاقتصاد، كاقتصاد مغلق هو البنية الأولى لأي دراسة اقتصاد إنتاجي صناعي، ثم يُدخل عليه الاقتصاد المفتوح.
وبخلاف الاقتصاد الجزئي، فقد تعرض علم الاقتصاد الكلي عندما كان جنيناً في أحشاء الاقتصاد الجزئي لصدمة إنتاج الآلة الهائل الذي خلق الطبقة الوسطى؛ مما تسبب في ولادته كعلم رضيع معتمد، ثم جاء فُطمه وهو في مهده، وذلك بفشل النظام النقدي المحدود القائم على الذهب؛ الذي سبب صدمة عنيفة للعلم الناشئ، بتغير النظام النقدي العالمي والمحلي. وما إن تجاوز العالم صدمة انهيار نظام الذهب، حتى تعرض لصدمة التكنولوجيا والاتصالات، التي غيرت وقع آثار، الإنتاج الكلي، على الاقتصاد، وذلك بسبب مضاعفتها أضعافاً أخرى كثيرة، والذي أدى لتغير مقاييس مستوى الحياة الإنسانية الكريمة. كما غيرت صدمة التكنولوجيا والاتصالات، مفاهيم استقلالية النظام النقدي المحلي، فدمجته ضمن منظومة نقدية عالمية واحدة، مما ساقه لتضخم التجارة المالية من مشتقات وسندات وغيرها، والتي قادته للأزمة المالية عام 2008م، فجاءت ابتكارات برناكي- رئيس الفدرالي الأمريكي- في سياساته في ضخ النقد والتعامل مع فخ الفائدة، كآخر تعديل عليه وتطوير لمفاهيمه.
فعلم الاقتصاد الكلي لم ينشأ إلا مع الحرب العالمية الثانية. يستطع أن يكتمل ويلحق بسباق التغير الهائل -الذي حدث في القرن الماضي- نسبياً إلا في هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، على انتظار فيما تأتي به الأيام من صدمات جديدة.