د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** إذا احتل «هنري ميلر 1891- 1980م مكانة في الأدب الأميركي بصفته روائيًا صادمًا فلا يعني هذا أن تكون له المكانة نفسُها في وسطٍ مختلف، وإذ يتباهى «أدغار ألان بو 1809- 1849م» بسلوكه الخاص في مجتمعه وربما انتشر بسببها فإن هذا لن يرفع قيمته أو يمد قامته في مجتمع آخر، وكذا فعندما سطر «محمد شكري 1935- 2003م» سيرته في «الخبز الحافي والشطار» فلكي يحكي تجربته الخاصة لا ليكون مقتدىً لمن يكتب بعده؛ فلكلٍّ ضوابطُه الأخلاقية ومهارته الإبداعية ويستطيع تقدير المساحة الحرة التي يتحرك فيها.
** لا تتيح بعضُ الثقافات للمنتمين إليها بوحًا مكشوفًا يهتك سُتُرًا محجوبةً أو مختفيةً لارتهانها بطبيعة النفس الإنسانية التي تدفعها نحو الجنوح نفسٌ أمارة وتعيدها نحو الجادة نفس لوامة، وإذ يمثل الذنب قيدًا نفسيًا على بعض مرتكبيه يجيء الاستغفار» السرِّي» تحريرًا من عقدة اللوم، مختلفًا عن الاعتراف «العلني» المشبه للسير الفاضحة؛ فما هي العلاقة بين الاستغفار الكتوم والاعتراف الصاخب؛ سواء أتمَّ أمام مرجعٍ ديني أم صار مرجعًا جماهيريًا كما في بعض السير الذاتية والروايات السيرية، وهل يستطيع كتابهُا وكاتباتها النجاءَ من أوزار ملاحقتها لهم في حياتهم وبعد مماتهم في المجتمعات التي أذنت بتعادلية الخطأ والإنابة.
** وإذ لم تعد الكتابة الوسيلة الوحيدة للاعترافات فقد استسهل جمعٌ من المتأثرين بفوضوية الوسائط الرقمية توثيق اعترافاتهم على الملأ غيرَ هيَّابين لمآلها الذي سيصمهم مدى الدهر بما ستره الله عليهم، وحين نتجاوز هذا المحور الخاص بسلوكٍ غير قويم يفشونه ولم يكونوا مضطرين إليه؛ فلماذا لا يفشون الخلل في تعاملهم وما قد يكون اعتور حياتهم من غش وخداع وفساد مالي وإداري وظلم لغيرهم وتمكين لمواقعهم وتزييف لواقعهم؟
** لعل هذه النماذج تصلح أمثلةً على كتب المسايرة؛ فقد صار هاجسُ بعض من يكتب سيرته الذاتية اللجوء إلى ملامسة « التابوهات» المكروهة أو المحرمة؛ حينًا بإيغالٍ في دُلجتها وأحيانًا بإلماحٍ إلى سوءاتها، وفي معظمها لا بيانَ يَجتذب ولا بنان يَنتصب، وكأن الأهمَّ أن يشاعَ عن كتبتها تجاوزٌ وجرأة، وإلا ما الذي يحمل مستورًا على هتك ستره، وما هو المضمون المتوخَّى ممن يوثق قبحياتٍ مارسها في غيابٍ وعيٍ أو حسيب؟!
** تتنوع الثقافات فتتنوع استجابات المنتمين إليها، والمسايرةُ من خارج الثقافة يحتاج إلى كثيرٍ من المراجعة، ولعل من ينتصرون للإلحاد والمثلية والتعري كما صنع «ميلر وبو وشكري» يتأنَّون إن لم يكن كثيرًا فعلى الأقل ليُبدوا احترامًا للأغلبية الواعية بمتطلبات دينها وبيئتها وإرثها.
** أما كتب المصلحة فلا تحتاج إلى حديث فحبرٌ يُدلق وورقٌ يُحرَق وعوائدُ تُغرِق، ولعل المقالات الثلاثة المتصلة في موضوع ما بعد القراءة وما قبل الكتابة (وهذا خاتمتُها) تُبرز أزماتٍ ثقافيةً آن أن تُناقش بأصواتٍ عالية.
** الحياةُ حياء.