د. يوسف بن طراد السعدون
تعد وزارة الخارجية أول وزارة تأسست في المملكة العربية السعودية بتاريخ 29/ 12/ 1930م تلتها وزارة المالية 1932م ثم وزارة الدفاع والطيران 1944م، ووزارتي الصحة والداخلية 1951م. واستمرت مسيرة بناء الإدارة العامة في المملكة، بتأليف مجلس الوزراء عام 1953م. ونمت وتشعبت مهام القطاع العام خلال العقود الماضية بشكل كبير، سعيا لدفع عجلة التنمية الشاملة في مختلف أرجاء المملكة. وقد عانى الجهاز الحكومي في مراحله الأولى، وواجه تحديات عديدة أبرزها كانت ندرة القوى العاملة الوطنية المؤهلة لإدارة القطاع العام.
وتشهد الإدارة العامة في المملكة، حاليا، تحولات وتغييرات تنظيمية عديدة، مما يتطلب وقفة تأمل ومراجعة لضمان أنها راسخة في مسارها نحو التنمية الإدارية المنشودة. فالإمكانيات المتاحة والمتغيرات التنموية التي تواجهها الآن، اختلفت عما كان عليه الحال سابقا. ولكن بالتأكيد تظل تحديات التنمية الإدارية دوما باقية، وبأشكال مختلفة، أمام القطاع العام ولابد من التعامل معها.
فالمملكة اليوم تتبوأ مكانة بارزة ضمن أقوى 20 اقتصاداً بالعالم، وتشهد حراكاً متسارعاً ضمن برامج التحول الوطني ورؤية 2030 لدخول حقبة جديدة من الطموحات التنموية المميزة. ولديها موروث ثري من الخبرات الإدارية والتجارب الوطنية المتمرسة بالإدارة العامة. وفائض من القوى العاملة المؤهلة لشغل الوظائف المختلفة بأجهزة الدولة، في ظل ما حققته الدولة من إنجازات تنموية كبيرة ونمو في القطاع التعليمي والتدريبي خلال السنوات الماضية.
والجهاز الحكومي يشهد حاليا تجديدات ظاهرة، بتولي الكوادر الوطنية الشابة من الجنسين، المراكز القيادية بها. والملاحظ أن بعض تلك القيادات تنقصها الخبرة المتمرسة بالعمل العام أو في مجال عمل تلك الأجهزة. وعدد منهم قادمون من القطاع الخاص وبثقافة العمل في الشركات.
ونشهد أيضا كثافة في تأسيس الهيئات والمؤسسات العامة الجديدة بمختلف القطاعات، وإعادة توزيع في المسؤوليات والصلاحيات بين الوزارات والأجهزة الحكومية، وهناك تغييرات متتالية بالخطط التطويرية والهياكل التنظيمية والمواقع القيادية في الأجهزة العامة، وثقة عظيمة من قيادات بعض الأجهزة الحكومية بقدرات المكاتب الاستشارية الدولية الأجنبية في إعداد ما ينشدونه من خطط ودراسات واستشارات لتطوير نشاطات أجهزتهم.
وهذه المتغيرات، وغيرها العديد، تمثل تحديات جديدة للتنمية الإدارية بالمملكة. مما يستدعي وقفة مراجعة وتقييم لمستوى أداء القطاع العام، لضمان تكامل المسيرة وقوة الدفع لكافة عجلات التنمية الشاملة للوطن. وهذا ما أكدت عليه رؤية المملكة 2030، التي نوهت إلى أهمية الإصلاح المؤسسي ورفع كفاءة وإنتاجية أجهزة الدولة. وفي هذا الشأن، قد يكون من المناسب:
1. المراجعة المستمرة للوضع التنظيمي لأجهزة الدولة للتأكد من تطبيقها الهياكل والنظم والمناهج والإجراءات المعتمدة والملائمة للمرحلة القادمة. والسعي لضمان إدارة عامة فاعلة، بتنسيق متكامل بين الأجهزة الحكومية المختلفة. وعدم التوسع في إنشاء الهيئات والمؤسسات ما لم يستلزم الأمر بشكل ملح، مع ضرورة وضع تنظيم شامل يبين بوضوح حدود الصلاحيات وتوزيع المسؤوليات لتلافي الازدواجية والتضارب بالنشاطات.
2. دعم وتقوية الجهاز المختص بالإصلاح الإداري وتكليفه بمراجعة وتقييم اللوائح والأنظمة والتنظيمات وتقديم تقرير دوري مفصل بالمنجزات والعوائق وأوجه القصور بالأداء. وأن يكون مرتبطاً بأعلى سلطة (الملك أو ولي العهد) وليس مجلس الوزراء، لأنه سوف يقيم أداءهم. ومن الضروري أن يكون مرنا ويستعين بمن يرى حسب الحاجة والمرحلة.
3. ترسيخ مفهوم مأسسة صناعة القرارات بالأجهزة الحكومية، وفقا لمنهاج يلزم باتباع المراجعة الدقيقة والمقارنة بالتجارب السابقة، والاستعانة بمشورة ذوي الخبرة والممارسة من أبناء الوطن. فمرحلة التنمية الإدارية حاليا لا يقبل معها تكرار تجارب اختراع العجلة وهدر الوقت والموارد.
4. الحرص الشديد على توفر الخبرة والممارسة المهنية والمهارة المتميزة في من يعينون على وظائف قيادية بالأجهزة الحكومية، وعدم المحاباة بتاتا في هذا الأمر. فلا يعني نجاح شخص ما في القطاع الخاص ضمان قدرته على النجاح في القطاع العام، فهما قطاعان يختلفان جذريا من حيث الإمكانيات والنظم والإجراءات والثقافة العملية.
5. المراجعة لقرارات الوزراء ورؤساء المؤسسات الحكومية فيما يتعلق بتعيينات النواب والوكلاء ومدراء العموم، أو استقطاب كوادر غير ممارسة، من خارج المؤسسة لتولي مناصب بها. فهذا يضر كثيرا باستقرار الأجهزة العامة وفعالية أدائها وقدرتها على السير بتنفيذ الخطط المقرة لها، إلى جانب أنه يؤدي لإحباط منسوبيها من ذوي الخبرات وتسربهم. وحبذا لو يتم تنظيميا إقرار منصب أمين عام بكل وزارة أو مؤسسة عامة، يكون على مستوى إداري موازي للوزير، على أن يتولاه دوما أحد الخبرات المتمرسة المتميزة القيادية من منسوبي الجهاز، وأن يناط به، وليس الوزير، الإشراف على كل ما يتصل بالشؤون التنفيذية للجهاز من خطط وبرامج وتعيينات وترقيات وغيرها من أمور ترتبط بالعمل اليومي.
6. دعم وتطوير ووضع الثقة في معهد الإدارة العامة، ليكون مركزاً رائداً للتنمية الإدارية، وبيت خبرة في مجالي البحوث والاستشارات الإدارية وإعداد القادة الإداريين، والاستعانة به بدلاً من الشركات الاستشارية الأجنبية. فالمعهد مؤسسة وطنية أسست قبل أكثر من نصف قرن، ويملك موروثاً ثرياً من الخبرات الوطنية، وقادر على أن يكون رافداً قوياً لتحقيق الآمال الرامية لتطوير القطاع الحكومي بالمملكة لمستوى طموحات المرحلة القادمة.