محمد شومان
الكتابة بالنسبة لي ممارسة اعتيادية كل يوم، لأن مهنتي هي القراءة والبحث العلمي والكتابة، لكن عندما أجلس لأكتب عن إنسان عزيز وقريب إلى قلبي، سبقنا إلى دار الحق، أتحول إلى طالب فاشل أو صحفي مبتدئ في بلاط صاحبة الجلالة.. الصحافة.
والغريب أنني لا أكتب عن وفاة إنسان بطلب أو تكليف من أي شخص كان، وإنما أنا الذي أبادر للكتابة بمحبه صادقة ووفاء يستحقه المتوفى، غير أن كل هذه المشاعر لا تضمن لي النجاح في كتابة نص يقترب من شخصية المتوفى وأعماله في الحياة.
أبدأ مقالي بهذا الاعتراف كي يشفع لي أمام نفسي والأصدقاء المشتركين بيني وبين د. عبد الرحمن الشبيلي، بل وربما يشفع لي أمام التراث الثري الذي خلفه الفقيد.
تراث من العلم والأدب والسلوك الإنساني الرفيع، تراث لن ينمحي أو يزول، لأن به أعمال ريادية عديدة في كتابة تاريخ المملكة وسير رجالها من نخبة الجيل الأول المؤسس، فضلاً عن دراسة الإعلام ونشأة وتطور الإذاعة والتليفزيون السعودي.
دراسات وبحوث تميزت بجدتها وجديتها، والأهم قدرتها على الجمع بين أسس ونظريات الإعلام الحديثة، وبين الممارسة الفعلية في أرض الواقع، في رحاب إذاعة وتليفزيون وصحافة المملكة، بكل ما أحاط بها من ظروف محلية وعربية ودولية.
لم يكن د. الشبيلي مؤسس دراسات وبحوث تاريخ الإعلام السعودي فقط، بل كان مشاركًا في صناعته وتطويره، فقد شغل، كما هو معروف ومتداول في سيرته الذاتية، مناصب قيادية عديدة في وسائل الإعلام كافة.
هكذا كان، رحمه الله، باحثًا ومشاركًا في آن واحد في تأسيس وتطوير الإعلام السعودي، وربما تمنع هذه الوضعية الإنسان من الكتابة التاريخية بموضوعية ودقة وحياد، لكن الحق أن د. الشبيلي (أبا طلال) كان مؤرخًا ملتزمًا بالمنهج العلمي التاريخي، في سرد الحقائق وتحليلها، واستخلاص الاتجاهات العامة، من دون لوي للحقائق أو تعسف في التأويل.
باختصار لم يكن ذا غرض سوى البحث عن الحقائق، وقد تمكن من ذلك بحكم تكوينه العلمي والمعرفي العميق والمتنوع، وخبراته الأكاديمية والإدارية، وعشقه لكتابه التاريخ والسير.
هذا العشق كان يوفر للراحل شغفًا لا ينتهي بالتنقيب عن ما أغفله المؤرخون بقصد أو بدون قصد، والكشف عن الحقائق، وكتابة تاريخ الإعلام السعودي، وتاريخ رجالات المملكة، ولم يتنازل أبا طلال عن هذا الشغف، بل لازمه طوال حياته، وكلما تقدم في العمر، كلما ازداد الشغف والرغبة لديه في البحث والتاريخ.
لذلك كان، رحمه الله، يقرأ ويكتب وكأنه شاب في مقتبل العم، لا يتوانى عن مطاردة المراجع والمصادر في أي مكان حول العالم، واستمر على هذا الدرب الصعب، على الرغم من أن أغلب باحثي وأساتذة الإعلام في السعودية والمنطقة العربية قد هربوا من تاريخ الصحافة والإعلام، واختاروا موضوعات ومجالات بحثية أخرى في تحليل محتوى الإعلام، وترتيب الأجندة، وآراء الجمهور، وقضايا الإعلام الجديد، ووسائل التواصل الاجتماعي.
هرب أغلب باحثي وأساتذة الإعلام - وأنا منهم - إلى هذه المجالات نظرًا لأهميتها وجدتها، وأيضًا لسهولتها النسبية إذا ما قورنت بدراسات تاريخ الصحافة والإعلام وسير نجوم الصحافة وروادها الأوائل. لأن كتابة تاريخ الإعلام مهمة شاقة، وتحتاج لباحث موسوعي الثقافة، وقادر على الحكم بدقه وموضوعية على الأحداث والشخصيات.
وكان (أبا طلال) واحدًا من هؤلاء الرجال.. واستمر لسنوات طويلة مؤسسًا وجنديًا مخلصًا في درب تخصص تاريخ الصحافة والإعلام والسير، وخلف تراثًا بالغ الأهمية، لعل بعض الباحثين الشباب في المملكة يستفيدون منه، ولعل بعضهم أيضا يعد رسالة دكتوراه أو ماجستير حول كتابات أبا طلال ومنهجه في تناول تاريخ الصحافة والإعلام في المملكة.
كان (أبا طلال) نموذجًا للمثقف والباحث الموسوعي الثقافة، الذي يكتب بلغة علمية دقيقة، لغة المؤرخ ومنهجه الدقيق. وأعتقد أنه من الصعب أن يجود الزمان بكاتب وباحث مثله، وإنسان في سموه، فالرجل كان صادقًا ووفيًا وأمينًا ومتواضعًا، مستسلمًا لمشيئة الله، عانى كثيرًا مع مرض ابنه طلال، ثم وفاته، ومع ذلك لا تلقاه إلا راضيًا، هادئ النفس، مقبلًا على الحياة.
رحم الله د. عبد الرحمن الشبيلي، والذي التقيته في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة في فبراير الماضي، حيث اتصل بي يدعوني لحضور محاضرته القيمة عن حافظ وهبه «النسر المهاجر»، والمشاركة فيها، حيث كلفني الصديق الدكتور خالد النامي، الملحق الثقافي لسفارة خادم الحرمين الشريفين، بإدارة الندوة.
وكانت ندوة ثرية للغاية، أمتعنا (أبا طلال) فيها ببحث رفيع المستوى عن حياة ومساهمات حافظ وهبه، الوطني المصري - العروبي، الذي ضاقت به مصر بعد أن لاحقته سلطات الاحتلال، فلجأ إلى الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، والتحق بخدمته والعمل معه.
القصد كانت دعوة أبا طلال لي، ولقاءي به لعدة ساعات، خلال يومين قضاهما في قاهرة المعز، هو لقاء محبة ووداع، لكني لم أفهم. وكيف لي أن أفهم!!
** **
- مدير مكتب الجزيرة في القاهرة وأستاذ الإعلام بجامعة عين شمس