اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
منذ بزوغ فجرها الأول عام 1157هـ-1744م، إثر لقاء الدرعية التاريخي الشهير بين الإمام محمد بن سعود الذي كان أميراً للدرعية يومئذٍ، وبين الإمام محمد بن عبد الوهاب.. ذلك اللقاء الذي اتحد فيه السيف والكتاب، وتعهد فيه الأول بحماية الثاني ونصرته، ليسفر عن تأسيس الدولة السعودية الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود. أقول منذ ساعتئذٍ كان الهدف محدداً والوجهة واضحة جلية المعالم: إعلاء كلمة الله، مناصرة عقيدة التوحيد، تصحيح العقيدة ومحاربة كل أنواع الشرك البدع؛ تحت ظل تحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون الرعية عظيمها وصغيرها. وعلى هذا الأساس استمر الحال في الدولة السعودية الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود حتى أفول نجمها عام 1233هـ-1817م.
وما هي إلا سبع سنوات عجاف حتى أطل نجمها من جديد عام 1240هـ-1824م، على يد البطل الإمام تركي بن عبد الله، صاحب السيف الأجرب على المبدأ نفسه. وبعد سبعة عقود يغيب نجمها للمرة الثانية، ليطل هذه المرة بقوة بعد أن قرأ مؤسسها التاريخ جيداً، فعزَّز الإيجابيات وعالج السلبيات في غضون عقد وحيد يتيم.. بزغ نجمها من جديد هذه المرة كمارد مذهل مدهش يوم استولى المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، الرجل الزاهد الصالح البطل الفذ على الرياض عام 1319هـ-1902م، مستعيداً ملك آبائه وأجداده المجاهدين الغر الميامين، ليؤسس الدولة السعودية الثالثة الراسخة الفتية، التي ما نزال نتفيأ ظلالها الوارفة؛ وهذه المرة أيضاً على المبدأ السابق نفسه الذي تأسست عليه الدولتان السعوديتان السابقتان الأولى والثانية.
وقد أكد المؤسس الملك عبد العزيز هذا المبدأ في أكثر من مناسبة، إذ يقول: (نحن آل سعود لسنا ملوكاً.. ولكننا أصحاب رسالة). وقد أردف هذا بمقولات خالدة عبر مسيرته الشاقة الطويلة التي استمرت لنصف قرن من العمل والكفاح والجهاد من أجل تحقيق الحلم؛ مؤكداً صدق المبدأ الذي تأسست عليه دولة آل سعود منذ فجرها الأول، كقوله مثلاً: (أنا أدعو إلى دين الإسلام ونشره بين الأقوام، وأنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم... إن فخرنا وعزنا بالإسلام...)... إلخ.
أجل، نحن أصحاب رسالة سامية عظيمة خالدة، تتمثل في الدعوة إلى إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان هم المؤسس منصباً على العناية بالحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة وتطويرها وتذليل كل ما يعتري سبيل الحجاج والمعتمرين والزوار من صعاب. فكان أول ما بدأ به إثر دخوله الحجاز عام 1343هـ-1924م هو تأمين دروب الحجاج وطرقهم، فبسط الأمن حتى أصبح الحاج يأتي من كل فج عميق لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، بعدما كانت رحلة الحج في السابق قبل قيام الدولة السعودية الثالثة شاقة، تمثل مخاطرة حقيقية بسبب انعدام الأمن، فكان الحاج عندما يغادر دياره يودع أهله وداع مفارق غير عائد؛ وبالفعل تعرض كثيرون منهم للسلب والنهب والقتل أحياناً على يد قطاع الطرق لغياب هيبة الدولة الحقيقة.
فأصبح اسم عبد العزيز مقروناً بالأمن، لأنه قائد يدرك جيداً أن الأمن هو أهم عامل للاستقرار والاطمئنان، وبالتالي تفرغ الناس للعمل والعبادة. ولهذا لم تكن تأخذه لومة لائم تجاه أي شخص يهدد أمن المجتمع أو أمن الحجاج الذي أولاه عبد العزيز عناية فائقة، لأن أمر الحجاج يمثل ذروة سنام رسالة أسرته.
ثم التفت المؤسس بعد ذلك إلى سن تنظيمات فعالة تمكن قاصدي بيت الله الحرام وزوار مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أداء الفريضة بكل يسر وسهولة كترتيب شؤون المطوفين، والأدلاء والوكلاء والزمازمة، لخدمة الحجاج وتعريفهم بالطريقة الصحيحة لأداء هذه الشعيرة العظيمة كما ينبغي. كما أسس المديرية العامة للحج لتنظيم عمليات الحجاج من استقبال وتيسير إجراءات الإقامة والسكن والطبابة والتنقل بين المشاعر المقدسة، ومن ذلك تخصيص مخيمات لاستراحة الحجاج في المدينة المنورة وجدة.
بل أكثر من هذا، أصبح الملك عبد العزيز منذ دخول الحجاز تحت مظلة الدولة السعودية، يشرف على الحج بنفسه لاستشعاره أهمية هذه الرسالة السامية العظيمة الخالدة التي شرفنا بها الله سبحانه وتعالى في العناية ببيته ومثوى رسوله صلى الله عليه وسلم وخدمة ضيوف الرحمن ورعاية شؤون المسلمين حيثما كانوا في هذا العالم الفسيح. ولهذا شيد ثلاثة قصور في طريقه إلى الحج من نجد إلى مكة المكرمة في مرات والدوادمي والمويه. وهي في الحقيقة لم تكن قصوراً للراحة والرفاهية كما يتبادر إلى الذهن بقدر ما كانت مرافق حكومة متكاملة الخدمات، لاسيَّما لتزويد قوافل الحجاج بالأكل والشرب وغيرهما من احتياجات ضرورية، ولتفقد أحوال الرعية، واستقبال الأعيان ورجال الدولة والضيوف ووفود الحجاج من أهالي نجد ومشيخات الخليج الذين يسلكون هذا الطريق. وأيضاً، وهذا هو الأهم في تقديري، لحفظ الأمن والتعامل مع كل ما يطرأ من مشاكل للحجاج من أي دولة، إذ جعل في كل واحد من تلك القصور قوة أمنية ترابط بشكل دائم، وجعلها مقراً للإمارة في كل بلدة لتنظيم العمل الإداري وضبط الوضع الأمني.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى عبقرية المؤسس وحسّه الأمني المتقدم، إذ أقدم عام 1348هـ-1929م، على تحويل طريق القوافل التي تتجه من نجد إلى الحجاز أو العكس، الذي كان يمر ببلدة الشعراء، إلى الدوادمي ليمر عبر أراضٍ مكشوفة، تفادياً لمروره بجبل ثهلان الذي كان يمثل بيئة خصبة للتربص بالقوافل من قبل المعتدين الذين وجدوا فيه حصناً منيعاً، لاسيَّما إثر فتنة الإخوان عام 1347هـ-1928م، فقطع بذلك الطريق عليهم.
هذا فضلاً عن إقامة المؤسس في مكة المكرمة طيلة أيام الحج، واجتماعه برؤساء الوفود من كل دول العالم والترحيب بهم وإكرامهم، والتباحث معهم في كل ما يهم شؤون المسلمين حيثما كانوا، خاصة الأقليات الإسلامية في الغرب وغيره من الدول غير الإسلامية.
وبعد نصف قرن من الزمان قضاه المؤسس في ترسيخ ركائز الدولة وبسط الأمن وخدمة ضيوف الرحمن بكل ما استطاع من وسيلة تيسرت له آنئذٍ، انتقل إلى جوار ربه ليتسلم الراية أبناؤه الكرام البررة بعده، سائرين على الدرب نفسه، مقتفين أثره في خدمة الدعوة وحمايتها، ورعاية شؤون المسلمين منذ سبعة عقود تقريباً بعد رحيل والد الجميع المؤسس، يقودون المسيرة على المبدأ نفسه. وها هم اليوم يتولون شؤون نحو ملياري مسلم في العالم، تحقيقاً لحلم والدهم الذي أفصح به لبروكلمان يوم قال له: (إن وفَّق الله أولادي كما وفقني، فسوف يتولون شؤون مائة مليون مسلم).. كل خلف يضع مزيداً من اللبنات على بناء السلف، حتى علا البنيان وأصبح شامخاً بعون الله تعالى وتوفيقه، ثم بالنية الصادقة والعزيمة الماضية والعمل بجد وإخلاص لاستمرار دولة الدعوة والرسالة في أداء مهمتها السامية العظيمة. فأصبحت رحلة الحج اليوم بما تحقق من إنجازات شاملة تشبه المعجزات في كل المجالات، من توسعة للحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى أصبح كل مسجد يتسع لملايين المصلين، فضلاً عن توسعات متتالية خلال سبعة عقود في المسعى وصحن الطواف وفي المشاعر المقدسة في منى وعرفة ومزدلفة والجمرات التي أصبحت اليوم لها أدوار متعددة ومسارات كثيرة تفادياً لما كان يحدث في السابق من أحداث بسبب الزحام والتدافع. ويقال الشيء نفسه عن مواقيت الإحرام الخمسة التي أصبحت مساجدها تتسع لعشرات آلاف المصلين من الرجال والنساء مع توفير كل وسائل الراحة.
هذا فضلاً عما توفره الدولة أعزها الله من خدمات لوجستية على أرقى المستويات من مرافق للسكن ووسائل للنقل والعناية الطبية والسقيا والترجمة والتوجيه والإرشاد وحفظ الأمن. فغدت رحلة الحج اليوم بتوفيق الله ثم بجهد القيادة الرشيدة في دولة الدعوة والرسالة المؤمنة الصادقة، إضافة لأداء المناسك والشعائر، سياحة سبعة نجوم، مريحة وممتعة.
وأدرك جيداً أن القلم مهما استرسل في الكتابة، فلن يستطيع إحصاء هذه الجهود العظيمة الجبارة الصادقة التي تعجز عنها دول مجتمعة، التي تبذلها الدولة السعودية في العناية بالحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وخدمة ضيوف الرحمن. وقطعاً هو شرف عظيم، بل أعظم شرف على الإطلاق في الوجود، يحسدنا عليه الأعداء ويغبطنا عليه الأصدقاء. ولهذا أختم بإشارة سريعة إلى ما وفرته الدولة السعودية لخدمة الحجاج والمعتمرين والزوار من فنادق فارهة، ومخيمات مريحة بمواصفات عالمية، ومستشفيات ميدانية وأخرى متخصصة وعيادات وسيارات إسعاف تقدم الخدمة الطبية لأكثر من ثلاثة ملايين حاج على مدار الساعة، فأدهشت جهود الدولة في هذا المجال جهابذة الصحة في العالم وخبراءها، فأكدوا تفوق بلادنا وتفردها في ما عرف بـ(طب الحشود) الذي لم يسبقها إليه أحد، فعكفوا على دراسة تجربتنا في هذا المجال.
وبالطبع لا تفوتني هنا الإشارة إلى ما تم اكتشافه من الإصابة بحالة سكري نادرة من بين ثلاث حالات فقط في العالم في حج هذا العام، والنجاح في إعادة البصر إلى حاج إيراني بإذن الله وتوفيقه. وإذ تبذل وزارة الصحة هذا الجهد المقدر الذي يشكرها عليه العالم كله مسلمون وغيرهم، حاديها في ذلك تغريدة أخي الوزير المتميز الدكتور توفيق الربيعة وزير الصحة، الذي غرَّد مؤكداً: (حسب توجيهات خادم الحرمين الشريفين، خدمة الحجاج أولوية لنا في المملكة)، ويدعم هذا تأكيد أخي الدكتور محمد صالح بنتن وزير الحج والعمرة إذ يقول: (خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما سياسة عليا للمملكة تتم بوتيرة لا تعرف التوقف).
أما في مجال النقل فأكتفي بإشارة سريعة أيضاً لما يقدمه مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة من خدمات فائقة لحجاج بيت الله الحرام، إذ يعد في الحقيقة أربعة مطارات في مطار واحد، تشتمل على (14) صالة تستقبل أكثر من مليون حاج في اليوم الواحد، وتودع نحو مليوني حاج بعد أداء المناسك، تقوم على خدمتهم نحو (30) جهة حكومية، تؤازرها أربع جمعيات طوعية، بكل حب وصدق وإخلاص؛ تستقبل الحجاج والمعتمرين بالزهور والبخور والتمور وماء زمزم مردفة ذلك كله بالدعاء لهم بطيب الإقامة وقبول العبادة.
وكما أكد أخي عصام نور مدير مطار الملك عبد العزيز الدولي في لقائه على الفضائية السعودية الأولى مساء السبت 2-12-1440هـ، الموافق 3-8-2019م، إنهم يبدؤون في الاستعداد لخدمة الحجاج بمجرد مغادرة آخر رحلة لحج العام، سعياً للارتقاء بالخدمة لإرسال الحاج مستقبلاً من سلم الطائرة التي تقله من بلده إلى سكنه في مكة المكرمة مباشرة حيث يجد متاعه في انتظاره. وبالطبع يقال الشيء نفسه عن مطار الأمير محمد بن عبد العزيز بالمدينة المنورة؛ فضلاً عن ميناء جدة الإسلامي وغيره من محطات الوصول الجوية والبرية والمائية على امتداد ربوع الوطن الحبيب. وينبغي ألا ننسى هنا أيضاً الإشارة إلى ما تقدمه الدولة من جهود لآلاف الحجاج والمعتمرين والزوار سنوياً من مختلف بلدان العالم، خاصة الأقليات الإسلامية، في ضيافة خادم الحرمين الشريفين مليك البلاد المفدى.
تبقى الإشارة إلى أن الدولة كلها تستنفر لتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن من قائد مسيرة خيرنا القاصدة سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده الأمين أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، فتحشد مئات آلاف الموظفين من مختلف القطاعات، ويبقى المليك المفدى وولي عهده في مكة المكرمة طيلة أيام الحج للإشراف على راحة الحجاج والاطمئنان على تقديم أرقى الخدمات لهم، انطلاقاً من التزامنا برسالتنا السامية العظيمة الخالدة في إعلاء كلمة الله والدعوة إلى توحيده سبحانه وتعالى واتباع سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن أي أجندة سياسية أو مذهبية؛ يؤكد هذا ما توليه الدولة من عناية خاصة لحجاج إيران وقطر واليمن.
فالحمد لله الذي أعزنا بالإسلام وجعل منَّا خير الأنام، وخصنا بهذا الشرف العظيم في خدمة ضيوف الرحمن، ونسأله تعالى أن يوفقنا دوماً لما يحبه ويرضاه، وألا يغير علينا إلى الأبد.. إنه جواد كريم.