د.أحمد بن عثمان التويجري
كان جميلاً وأنيقاً في كل شيء، جميلاً وأنيقاً في معتقداته وأفكاره ، وجميلاً وأنيقاً في مشاعره وأحاسيسه، وجميلاً وأنيقاً في مقالاته ومؤلفاته، وجميلاً وأنيقاً في حديثه وصمته، وقبل كل ذلك كله وبعده كان نبيلاً من نبلاء العرب، لا هم له إلا إحياء مكارم الأخلاق في كل فعل من أفعاله ، وكل قول من أقواله.
كان قلباً كبيراً حانياً لم يكتشفه على حقيقته إلا الخلّصُ من أصفيائه، حمل من هموم وطنه وأمته ما تنوء بحمله الجبال ، وكتم من تباريحه ولوعاته ما تعجز عن وصفه الأقوال، ورغم كل ذلك لم يُرَ إلا مبتسماً هاشاً باشاً في كل الأحوال. كان نفساً زكيّة بكل ما تعنيه الكلمة، لم يعرف الحقد ولا الحسد، ولا فكر في الانتقام من أي أحد في أي يوم. كان ينزه لسانه وقلمه عن الخوض في أعراض الناس وقول السوء ، فلا تسمع منه إلا الحسنى رحمه الله.
كان وطنياً من الطراز الرفيع، ينتشي طرباً لكل إنجاز يحققه الوطن أو أحد أبنائه أو بناته، ويغتم كثيراً لكل أمر له تأثير سلبي على الوطن ومن ينتمون إليه. كان يؤرقه تردي الإعلام في البلاد العربية سواء الإعلام التقليدي أم إعلام وسائط التواصل الاجتماعي، وكان يدرك وهو الخبير خطورة ذلك على الأجيال القادمة، وما يمكن أن ينتجه مثل ذلك التردي على مدى السنين من انحطاط في التفكير والسلوك والذوق العام. كان ناقداً بارعاً ليس في مجال الإعلام فحسب وإنما في مجالات الفكر والأدب والفنون والسياسة.
هاتفني في منتصف الصيف الماضي وهو في باريس وأنا في جنيف وأبلغني أنه سيأتي لزيارتي والاطمئنان علّي حيث كنت أعالج في أحد المستشفيات السويسرية، فأبلغته بأن الحق له وأنني أنا من سيزوره في باريس، وتجادلنا طويلاً ولم يرض - رحمه الله - بعدم المجيء إلا بعد أن أكدت له بأن لدي اجتماعاً في باريس الأسبوع التالي سأجمع من خلاله الحسنيين. وفي هذا الصيف قبل ما يقرب من شهر فوجئت باتصال هاتفي من معالي الشيخ محمد أبا الخيل وزير المالية السابق (وهو عديل أبي طلال) يبلغني فيه بأن أبا طلال يرغب في زيارتي للاطمئنان عليّ، وعرض معالي الشيخ محمد أن يستضيفنا خلال وجود أبي طلال هنا، وكأني بأبي طلال - رحمه الله - أراد بذلك الالتفاف أن يتفادى رفضي لتكبده عناء السفر كما فعلت في المرة السابقة. كانت زيارته وأم طلال على قصرها حلماً جميلاً قضينا فيه لحظات من أجمل لحظات العمر، وما كنا ندري بأن ذلك اللقاء سيكون اللقاء الأخير بيننا في هذه الدنيا الفانية.
إن عزاءنا وعزاء الوطن في فقد أبي طلال الدويّ الذي أحدثه موتُه والتأبينُ الذي توالى وما يزال يتوالى في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، والجموعُ الغفيرة التي احتشدت للصلاة عليه رحمه الله ، والحشودُ التي تتوالى على منزله للتعزية فيه، وقد ثبت عن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - قوله: «الناس شهود الله في أرضه»، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: «ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفّعهم الله فيه» رواه مسلم. وإن عزاءنا في فقده كذلك قول المصطفى - عليه أفضل الصلاة والسلام-: «الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه» متفق عليه.
رحمك الله يا شقيق الروح وصفيّ الفؤاد ، وتغمدك برحمته الواسعة، وأنزلك منازل الصديقين والشهداء والصالحين ، وهنيئا لك الشهادة بإذن الله ، وأحسن الله عزاء رفيقة عمرك ومؤنستك في هذا الوجود الفاضلة أم طلال، وأحسن الله عزاء شادن ورشا وعبد الرحمن، وعزاء شقيقك أخي وصديقي ورفيق شبابي وزميل دراستي سليمان، وأحسن الله عزاءنا جميعاً وعزاء الوطن فيك، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
يَا صَادعاً كبداً ما هدّها الكَمَدُ
ومُتلفاً مُهجةً مَا مَلّها السّهَدُ
وَباعِثاً في ُفؤادي ألفَ مُؤرِقةٍ
مِنَ الشُّجونِ لَها مِنْ خَلفِها مَدَدُ
وَقَدْ تولّيتَ في َلمْحٍ بِفَاجِعةٍ
لا الأرضُ تحملُها كلّا ولا الجَلَدُ
أبا طَلالٍ وقد خَلّفتَ عَاصِفَةٍ
مِنَ الأسى في قلوبِ النّاس تَجتَلدُ
أمَا تَرفّقتَ والأيام مُوحشةٌ
بِخَافقٍ بهواكَ العَذِب يَتّقدُ
أمَا ترفّقتَ وَيْحَ النائباتِ وَقدْ
شَابَ الفُؤادُ وقلَّ الزّادُ والسّندُ
مَنْ للمكارمِ يا مَنْ كنتَ سيّدَها
وقد رَحلتَ وحيّا رَكبكَ الأبَدُ؟
وَمَنْ تُرى للحِجا يا صَاحِ إنْ عَميَتْ
بَصَائرٌ وانتشى في غَيّهِ الزّبَدُ؟
وَمَنْ سَيوقُدُ قِنديلاً إذا احتدمتْ
بنا الخُطوبُ وعزَّ الرأي ُوالرَّشَدُ؟
وَمَنْ لِطيبِ السَّجَايا في تَألُّقِهَا
والجُودِ والنّبلِ مهما قلّ مَنْ حَمَدوا؟
وَمَنْ سَيؤنسُ جَمْعَاً كنت بهجته
وعُصبةً من رفاقٍ ضَمّهم أحَدُ؟
وَمَنْ لأكبادِ مَنْ أشعلتَ حُبّهُمُ
كَمْ مَرّةٍ قلبَك الحَاني قدِ اتّسدوا؟
يا سَيّدي ودموعي لَستُ أحبِسُهَا
وَفي رِثائِكَ كُلُّ الشِّعرِ يَتّئِدُ
قلْ لي بِربّكَ هل أبصرتَ سَانِحةً
في عَالمِ الغيبِ تَسبي كُلَّ مَنْ يَرِدُ
حَلّقتَ نَحوَ سَنَاهَا تاَرِكاً أُمَمَاً
بِلا خَلاقٍ وَعَيشاً جُلُّهُ نَكَدُ
كَأنّمَا أنتَ رُوحٌ أشرقتْ وَذَوَتْ
مِنْ عَالَم آخَرٍ بالطُّهرِ تَنفرِدُ
رَحلتَ يا سيدي والعُرْبُ دَاميَةٌ
جِراحُهُمْ والرّزايا حَوْلَهمْ لُبَدُ
والقابضونَ على جَمرٍ تُعانقهمْ
آمالُهم، رغم طولِ الدّربِ ما رقدوا
رَحلتَ يا سيّدي والوَجْدُ مِخلَبُهُ
يفري جَوانِحنَا شَوقاً وَيَفتَئدُ
رَحلتَ في لَمْحَةٍ والذكرياتُ لَظَىً
طُوفانُهُ في ثَنايا الرّوحِ يَحتشدُ
فلَا تَلُم خَافقاً ضَاق الوجودُ بِهِ
إذا شْدا بِقَوافٍ كُلُّها شُرُدُ
ولا تَلُمْ أعيُناً فاضتْ مَدامعُها
فأنتَ واللهِ مَنْ يُبكى ويُفتقدُ