فجع المجتمع بأسره، وعلى غفلة، أيما فجيعة، وخاصة الأوساط الإعلامية والثقافية والصحفية والأدبية والشورية بفقد علم بارز من أعلامها، هو الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي (أبوطلال) الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى يوم الثلاثاء 27 - 11 - 1440وبرحيله فقد الوطن ابنًا بارًا وفيًّا من أبنائه المخلصين وهو في أوج عطائه المتدفق في مجالات عدة لخدمة مجتمعه ووطنه.
هذا ما يشعر به الجميع بحكم إنجازاته الكبيرة ومؤلفاته الثرية، وبصماته المضيئة في مجالات شتى، لكنني شخصيًا خسرت بفقده ما لم ولن أستطيع استيعابه وحصره، حيث تمتد معرفتي اللصيقة بالمغفور له أبي طلال زمنًا طويلاً لا أملك تحديد بدايته، لكنه زمن زاخر بأعمق معاني التمازج في الرؤى والأفكار، والصداقة والأخوّة والألفة والمودّة، فقد جاورته في السكن عمرًا، وزاملته في العمل في مجلس الشورى زمنًا، وصحبته في السفر - وهو ما يكشف أدق خفايا الإنسان - في رحلات عمل ورحلات خاصة، فما خبرت فيه عن قرب إلا أسمى معاني الوفاء والمودة والتواضع والتميز في دماثة الخلق والإيثار والسماحة والكرم، وبشاشة الوجه، وعزة النفس، ونزاهة اليد وعفة اللسان، والترفع عن الصغائر والأعراض عن الجدل.
يكفينا نحن زملاءه السابقين في مجلس الشورى - شعورا بالفقد أنه سيمر علينا كل (أحد) خاليًا موحشًا، بعد أن كانت (أحدية الشورى) عادة أسبوعية يشرع فيها أبواب بيته لزملائه منذ أن تركوا العمل في مجلس الشورى وعلى مدى سنوات طويلة، فيُشعِر كلا منهم أنه ضيفه الأوحد، حين يحرص على أن يحتفي بكل زميل بشكل خاص، يوحي له بالاهتمام والرعاية، ويصرّ حتى على توديع كل من يغادر بنفسه فيرافقه إلى الباب.
سبحان الله.. لقد بدا الراحل الغالي وكأنه يحس بقرب مفارقته حين حرص قبل أشهر فقط على إصدار سيرته الذاتية في مدونته (مشيناها... حكايات ذات) والتي أودع فيها مكنونات ذاته، وتفاصيل معاناته طيلة حياته المليئة بصنوف شتى من المتاعب والأحزان التي اعترضت سيرته، ورغم ذلك كله لم يكن يُرى إلا صابرًا راضيًا متفائلاً، بل ربما كان لهذه المتاعب دور في تدفق عطاءاته، كديدن النبلاء دومًا حين يتعالون على أحزانهم ليحوّلوها إلى درجات يرتقون بها، وكعادة كبار النفوس لم يتحدث في صفحاته عن نفسه إلا بصيغة الغائب، إمعانًا في التواضع والبعد عن الأنا، مكتفيًا بتحقيق هدفه السامي وهو إعطاء دروس بليغة يستمد منها العقلاء من الأجيال القادمة قوة العزيمة والقدرة على تخطي الصعاب والارتقاء في سلم المجد.
يا الله.. ماذا أقول بعد، والكلمات تتزاحم، والعبارات تتلاطم ثم تتوارى خجلى من عجزها عن حمل ما تمنيت تحميلها إياه عن هذا الرجل الفريد، لاسيما وأنا أسترجع اللحظات الأخيرة حينما زرته في المستشفى قبل سويعات من رحيله، وقد بدا وجهه المشرق كعادته وكأنه يرحب بزائريه، حينها انتابتني مشاعر وأحاسيس مماثلة لما انتابني حين دخلت على شقيقي رحمه الله منذ سنوات في المكان نفسه (العناية المركزة) قبل وفاته بلحظات، ليزداد يقيني عندها أن أبا طلال كان مني بمنزلة الشقيق، بل ربما كان بيني وبينه من المشاعر والبوح والأحاسيس ما لم يكن بيني وبين شقيقي.
هل مات فعلاً عبدالرحمن الشبيلي؟ لا لم يمت.. فمثل هذا الرجل يظل حيًا في الوجدان والمشاعر بما تركه من إرث وآثار عطرة ستبقى أزمانًا بعده وبعدنا، لأننا على الدرب سائرون، فقليل بل نادر من يجمع الناس باختلاف فئاتهم على محبته وتقديره، وكأني بهذا الرجل وُجد ليحب الناس ويحبه الناس، فهنيئًا لك أبا طلال ما تركته من إرث ومآثر في قلوب وضمائر كل من عرفوك، والصبر لنا ولأسرتك ولكل محبيك على فراقك.
** **
محمد الشريف - رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سابقًا