د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
قبل وفاة فقيد الوطن أستاذنا الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في منتصف الأسبوع الماضي -غفر الله له، وأسبغ عليه شآبيب رحمته- كنتُ قد استعرضتُ معه -رحمه الله- في اتصال هاتفي من باريس مواقع أسبقيته الإعلامية!
فأدهشتني تلك الأوقات المتفوقة بكل تفاصيلها في حياة الراحل عبدالرحمن الشبيلي كما كان يرويها شفهيًا، وكانت مسيرة مختلفة جدًا في انسيابيتها ودفقها الثقافي والاجتماعي دونما صخب! والمزج النقي دونما خلط؛ وخصيصة شبيلية أخرى وهي القدرة المذهلة على تصحيح التلقي ليلقي الضوء على جوانب مهمة تجاوزتها فضاءات الورق في سيرته «مشيناها» التي كانت وداعًا حفيًا للتاريخ وأهله؛ وأحسب تلك السيرة الفاخرة من وفاء ذلك الرجل للأجيال بعده -رحمه الله، ولقد كانت تلك الدهشة حول إمكانات «الشبيلي» ملازمة لي منذ جمعنا منزل الخال الأديب عبدالله بن خميس -رحمهما الله- منذ قرابة العقدين، واليوم كادت تلك الدهشة الأزلية أن تلمَّ علائقها حيث خلا المكان واستوحش بعد أبي طلال -رحمه الله؛ وقد كان وعدني بحضور ثقافي بعد عودته من باريس ليحمل كتاب الدرعية لعبدالله بن خميس بعدما تتبعتُ معه بعض الفيض خلال الكتاب وطلبَ إرسال غلافه ليستبين تاريخ الطبعة التي استقيتُ منها.
تعلمتُ من أستاذنا الراحل عبدالرحمن الشبيلي لغة الجسور عندما يحدثني عن عَلَم وعمل وأمل، وعندما يكتب من غزير فكره أسانيد تاريخ الإعلام ونهوضه لأكثر من خمسة عقود جايلها -رحمه الله، ولقد سجّل في فيض توثيقه دخولاً قويًا في أوقاتنا الممتدة وعهودنا الملأى بحكايات البحث عن الأجدر والجدارات، ولم أشهد يومًا لأبي طلال أن توارى عن الإعلان حول توقه للوعي وأصحابه، ولم يغلق كتابًا من تأليفه إلا وقد احتفى فيه بالعقول الأقدر؛ ولذا كان تأبينه بعد وفاته -رحمه الله- شامخاً كشموخه، غزيراً كفيض عقله؛ متينًا كمتانة حضوره، شفّافًا كنفسه الصادقة؛ وقد امتلأتْ صفحات الوطن ومنابره بحديث ودود عن الفقيد الإنسان عبدالرحمن الشبيلي مثلما كان -رحمه الله- شفيقًا ودودًا بمجتمعه؛ حفيًا بوطنه، حارسًا أمينًا يحدودب على مسئولياته فتنهض استجابة لصوته وتلبية لقوته العقلية الفياضة،،، ولقد وعى -رحمه الله- كيف يطوع العلاقات الثقافية في المحيط المحلي لتكون مسترادًا للإعلام السعودي؛ فاستجلب مساحات أكبر لظهور الآخرين من القدرات الوطنية، حيث كان -رحمه الله- ممن تشرفوا بحمل الفكر الإعلامي وإشعاله؛ وممن أقاموا منابعه وصنعوا قنواته، وفي كل مجال إعلامي كان الشبيلي مفتتحاً ومفتاحاً.
ولقد كانت للفقيد -رحمه الله- خطوات مضيئة في صناعة التوثيق للتاريخ الإعلامي السعودي، وحمل -رحمه الله- ذلك إلى واجهتنا الحاضرة، ومن خلال ذلك استطاع -رحمه الله- وباقتدار أن يسهم في منح سير بعض الشخصيات الوطنية مسوغات البقاء توثيقًا من خلال برامجه التلفزيونية الملأى بالكواشف التي لا يحسن استظهارها إلا هو -رحمه الله؛ وقد تعامل -رحمه الله- مع التلفزيون كوسيلة إعلامية بوصفه كائنًا مؤثرًا يجب أن لا يشيخ، فساق صورًا من تاريخنا الوطني عبر شريط الذكريات، فكانت ساعته مبينة ناضجة. وللفقيد -رحمه الله- أسلوب في الكتابة التوثيقية يتسم بالوصف ذي الكفاءة الدقيقة، والمعرفة المندمجة ذات اللغة الخاصة، ويبدو بياض الفكر عنده -رحمه الله- من خلال إلمامه العميق بآليات التحقق المعلوماتي ليستجلب ترشحات أنقى وأعذب مشربًا؛ ودائمًا ما تضيء معلوماته الغزيرة في مؤلفاته نقاط حاسمة نقف لها احتراماً ونردد «قطع الشبيلي قول كل خطيب».والتأبين لا يروي الفقد مهما اتسعت الصفحات إذا ما كان الفقيد حفيًا بالوفاء تقابله المواقف الإنسانية فيجزل عطاءاته نحوها، فعندما علم الدكتور عبدالرحمن بوفاة والدي -رحمهما الله- منذ ستة أشهر ونيف صلى عليه، وشاركنا أيام العزاء وأسرته الكريمة، وذلكم نُبلٌ مشهود. فرحم الله الدكتور عبدالرحمن الشبيلي وتقبله الله مع الشهداء والصديقين وحسُن أولئك رفيقاً.