د. محمد عبدالله العوين
صدَّر الفقيد د. عبد الرحمن الشبيلي - رحمه الله - سيرته الذاتية العصامية (مشيناها) ببيتين أراد الاستشهاد بالبيت الأول؛ بيد أن المعنى كان يستوجب إتباعه بالبيت الثاني؛ فكان كالنبوءة الخفية بما سيأتي، وكأنه يتوقّع أو ينتظر قدراً لم يعلمه إلا الله وحده وهو وفاته بباريس، فقد استشهد ببيتين من قصيدة لعبد العزيز بن أحمد الدميري المعروف بالديريني نسبة إلى قريته التي توفي فيها (تـ697هـ) من قرى محافظة الغربية بمصر:
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها!
لم يرد الكاتب - حتماً - الاستشهاد بالبيت الثاني؛ فهو لا يدري كما لا يدري أنه سيموت في باريس التي أحبها، فذلك مما خصَّ الله به نفسه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34 سورة لقمان). وإنما أراد الإشارة إلى أن خطوات ومحطات حياته التي مرَّ بها وهو يدونها لم يكن له فيها اختيار ولا تخطيط أو ترتيب مسبق؛ بل جاءت كما أراد الله وهيأ له، فلم يعلم أنه سينتقل صبياً يافعاً فقيراً من عنيزة إلى الرياض باحثاً عن مستقبل مجهول في مدينة ناشئة تضع قواعد نهضتها الأولى في العلم ومؤسسات الدولة المختلفة، لم يخطط أنه سيلتحق بكلية اللغة العربية عام 1379هـ (التي لم تكن آنذاك ضمن جامعة)، وسيتخرج فيها عام 1383هـ ودارساً في الوقت نفسه بكلية الآداب في جامعة الملك سعود قسم الجغرافيا. ولعله استقل أن يحصل على شهادة كلية غير مقرونة باسم جامعة، فأراد أن يكتسب الاسم الجامعي الذي يتفاخر به الدارسون في تلك المرحلة المبكرة من مسيرة التعليم، ثم الدورات الدراسية في اللغة الإنجليزية التي كان يحصلها في ساعات الفراغ المتبقية بين الكليتين، ثم الالتحاق بوزارة الإعلام مذيعاً، ومتقلباً في إدارات مختلفة بين الإذاعة والتلفزيون إلى أن وصل إلى مدير عام فوكيل، وقاطعاً تطور مسيرته الإدارية والتنفيذية كمذيع بدراسة عالية لمدة أربع سنوات حصل فيها على درجة الماجستير في الإعلام من جامعة كانساس 1388هـ والدكتوراه في الإعلام أيضاً من جامعة أوهايو 1391هـ .
هي خطى مكتوبة مشاها بعد ذلك في المجال نفسه بحيث أكمل أربعة عشر عاماً مذيعاً وقائداً إدارياً، ولم يكن يعلم أن خطواته المكتوبة ستقوده بعد ذلك إلى ميدان آخر ليس بعيداً عن الإعلام؛ وهو التعليم العالي إدارة وممارسة أكاديمية في جامعة الملك سعود، ثم مجلس الشورى لثلاث دورات، ومجالات عمل مختلفة لا تبتعد كثيراً عمَّا هيأ نفسه له علماً وعملاً.
لم يكن يعلم ذلك الشاب القادم من عنيزة أنه سيكون في سنوات قليلة قادمة نجماً وأكاديمياً وباحثاً ومدوناً لتاريخ مرحلة مهمة من تاريخ الوطن ... يتبع