أ.د.محمد بن حسن الزير
التضليل من أخطر آفات الفكر الإنساني ومن أسوأ علله القاتلة، وأشنع الأسباب المؤدية إلى غيابه عن جادة الفهم السليم، وطريق الحق المستقيم، وصرفه نحو جادة الفهم السقيم؛ والتضليل يكون في ميادين متعددة ومجالات مختلفة؛ في السياسة والاجتماع والدين.. إلخ. وأخطر ما يكون التضليل حين يأتي في قضايا الدين وباسم الدين نفسه؛ لما يترتب على ذلك من مفاسد لها أول وليس لها آخر، تحلق أديان الناس، وتحصد أرواحهم، وتفسد حياة أحبائهم، وتذهب بأمنهم واستقرارهم إلى حيث لا يعلم إلا الله! وفي ظل هذه الآفة يسود الهوى، ويعيث الجهل، ويُختطف الدين مع الأرواح المزهقة ظلما وعدوانا.
ويمثل ميدان الخطاب الديني المجال الرحب للتضليل من خلال خطابات الدين الزائفة التي تتلبس لبوس الدين، وتضلل به عقول السذج والبسطاء والأميين؛ مع أن الدين الصحيح وفهمه السليم، براء كل البراءة من تلك الخطابات وضلالاتها وزيفها وزخرفها وبهرجتها.
ومن المعروف لدى الجميع أهمية الاتصال بين الناس قديما وحديثا، وأهمية وسائل الإعلام المختلفة، التي تطورت وتنوعت في العصر الحديث، على شكل وسائل إذاعية سمعية ومرئية، ومقروءة، وسينما، وفيديو، وإلكترونية؛ بدت في وسائل التواصل الإعلامي الاجتماعي الحديثة، وأهمية ما تلعبه من أدوار خطيرة في حياة الأفراد والمجتمعات، إيجابا وسلبا؛ ومن هنا تأتي خطورة وسائل الإعلام الضالة لتكون الأداة الفعالة لإنعاش ذلك التضليل.
وتستخدم تلك الوسائل الإعلامية في إشاعة التضليل وبث الأفكار والأفكار المضادة وتناقلها؛ ومن هنا تأتي خطورة الإعلام المضلل على التفكير، وتوجيه المتلقين والتأثير عليهم، سلبيا؛ حسب نوع الرسالة الإعلامية الموجهة، وطبيعتها، وفحواها، ومقاصدها.
ولهذا نجد مشركي مكة يستخدمون الدعاية الإعلامية المضادة للرسالة والرسول، صلى الله عليه وسلم، وانطلق خطباؤهم وشعراؤهم وبلغاؤهم، ينشرون الدعاية المضللة ضد الدين الجديد، وضد صاحبه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فقالوا عنه شاعر وكاهن وساحر ومجنون إلخ، وقد واجه القرآن والرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا الموقف الإعلامي مواجهة حازمة حاسمة صارمة بكثير من التدابير والإجراءات والمواقف. (انظر: محمد بن حسن الزير؛ مواجهة القرآن والسنة لسلطة الشعر والشعراء لتحقيق الأمن الفكري ص 18-41).
وفي حاضرنا المعاصر، تقوم وسائل الإعلام المختلفة، بدور خطير، في هذا الاتجاه السلبي؛ من حيث إشاعة الأفكار المنحرفة، وإطلاق المفاهيم الضالة ونشرها في الفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية؛ وهنا يتمثل التضليل الإعلامي، في تناقل الأفكار الضالة وإشاعتها، والترويج لها على نطاق واسع، وفي إقامة حملات التهييج والإثارة السلبية، التي تهدد أمن الأفراد والمجتمعات الفكري، واستقرارهم السياسي، وسلامهم الاجتماعي، كما نجد هذا الإعلام ينتج صورة سلبية عن الإسلام وأهله، مستغلا ما يقدمه أهل الفكر المنحرف، والسلوك الشاذ؛ ممن يَتَسَمَّونَ بالمسلمين، وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام دينا إلهيا، وعن المسلمين أتباعا صالحين للإسلام!
وتمثل اللغة القوية المؤثرة الأداة الأساس الحاسمة، في معترك التداول الإعلامي، وتواصله الخطير، وحمل رسائله الأدبية اللغوية الفاعلة، سلبيا أو إيحابيا. وهي في الوقت نفسه حين تكون (قوية عند المتلقي) تمثل له حصانة ذات أهمية بالغة لوعيه وسلامة إدراكه؛ وبالتالي فاعلية عقله.
وحين يتم تعطيل استخدام العقل الذاتي، بالوقوع تحت تأثير مغيبات العقل؛ بسبب الضعف اللغوي، والجهل العلمي، والغياب الذهني بالمخدرات وأخواتها، يتم بالتالي الركون إلى عقول الآخرين، ويتم تحكيمهم وتحكمهم في توجيه هذا الإنسان الواقع تحت طائلة هذه المؤثرات الخطيرة المدمرة.
وهذا التعطيل من أقبح الأمور التي لا تليق بالإنسان الذي كرّمه الله بالعقل، وبسببه حمله المسؤولية والأمانة، وأنعم عليه بالإرادة الحرّة، يختار بها ما يشاء؛ فكيف يليق بهذا الإنسان أن يعطل استخدام عقله، ويركن إلى عقول غيره، تسيّره وتتحكم فيه على هواها، فتورده موارد الهلاك، وتنتهي به إلى الخسار المبين. وقد علَّمنا القرآن أن نطلب الدليل والبرهان، حتى مع وجود إيماننا، كما حدث مع الخليل، عليه السلام، حين طلب من ربه أن يريه كيف يحي الموتى؛ فقال الله له: «أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي» البقرة 260، وفي القرآن الكريم: «قل هاتوا برهانكم» البقرة 111، وقد ذم القرآن هؤلاء الذين لا يستخدمون قدراتهم العقلية؛ فقال تعالى: «لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون» الأعراف 179، وشنّع القرآن على المقلدين المعطلين لعقولهم: «إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون» الأنفال 22، وقال تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» محمد 24 ، وقال تعالى: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون» البقرة 170، وقال تعالى: «وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون» المائدة 104.
إن لغتنا العربية المبينة، هل لسان فكرنا السليم، وحصانة وعينا المستقيم، وسلاحنا القوي تجاه المُوَجِهَات الإعلامية المغرضة، ودعاواها ودعاياتها المضللة؛ لأن رسالتنا السماوية وحي بياني لغوي فائق، يتوجه إلى كائن إنساني لغوي بياني ناطق! وإلى حديث قادم.