د عبدالله بن أحمد الفيفي
-1-
لا مبالغة، إذا قلنا إنه قد يبدو في عقل (أبي الطيِّب المتنبِّي) التواءٌ في التعبير أحيانًا، فإذا معانيه تَظهر غامضةً عويصةً مُشْكِلَة، وإنْ كانت أيسر من أن تكون كذلك، لو أَحسنَ عنها التعبير.
- لو أَحسنَ عنها التعبير؟ أمِثل هذا يقال عن (أحمد بن الحسين)؟!
- نعم. وهل أزرَى بنا مثل تصنيم الأعلام؟! خذ مثالًا من قوله:
وأَوفَى حَياةِ الغابِرينَ لِصاحِبٍ... حَياةُ امرِئٍ خانَتْهُ بَعْدَ مَشيبِ
- فماذا أراد أن يقول؟
- أراد أن يقول: إن الحياة خائنةٌ للأحياء، وأوفَى حياةِ المرء -إنْ كان من وفاء- تلك الحياة التي لا تخونه إلَّا بعد المشيب، بالعجز والمرض والموت. أمَّا غيرها من الحيوات ففيها ما يخون المرءَ في شبابه، ضروبًا من الخيانات، بما يصاب به من البلايا، أو الموت. لكن الشاعر أقحم كلمة «صاحب»، هكذا، دون ربطٍ بكلمة «حياة»، فبدت معلَّقة، تستدعي ذلك الربط. ثمَّ أقحم كلمة «امرئ»، منتقلًا إلى ما يشبه كلامًا جديدًا: «حَياةُ امرِئٍ خانَتهُ...». أفما كان ليصيب الهدف، وينقل المعنى، لو أنه اختار إحدى هذه الصِّيَغ البديلة، مثلًا:
وأَوفَى حَياةِ الغابِرينَ لِخِلِّها... إذا لم تَخُنْهُ قَبْلَ عُمْرِ مَشيبِ
أو: - وأَوفى حَياةِ الغابِرينَ لصَحْبِها... حياةُ الذي خانَتْهُ بَعْدَ مَشيبِ
أو: - وأَوفَى حَياةِ الغابِرينَ لِرَبِّها... حَياةُ امرِئٍ خانَتْهُ بَعْدَ مَشيبِ
غير أن التواء الشاعر في التأتِّي لأداء معانيه كثيرًا ما كان يورثه التواء المعنى، مع الإيهام بإشكاله، وأن له مغازي بعيدة، ودلالاتٍ عويصة! ولو أنعمتَ النظر في معانيه، لرأيتَ بعضها من تمحُّل الشرَّاح، أكثر من كونها من مقاصد النص. ومن أمثلة التواء المتنبِّي الصياغي أيضًا قوله:
وأَكثَرُ ما تَلقَى أَبا المِسْكِ بِذلَةً... إِذا لَم تَصُنْ إِلَّا الحَديدَ ثِيابُ
فقد أراد القول، في الشطر الآخر: «إِذا لَم يَصُنْ الإنسانَ شيءٌ من الثيابِ غيرُ الحَديدِ»، أي الدروع. لكنه صاغ الشطر تلك الصياغة المعوقة، التي كادت أن تكون بلسانٍ غير عربيٍّ ولا مبين. ولو أنه قال: «إِذا لَم يَعُدْ، إلَّا الحَديدَ، ثِيابُ»، أو: «إِذا لَم يَصُنْ، غيرُ الحَديدِ، ثِيابُ»، لكفَى نفسَه والشرَّاحَ اللبس.
وما يبدو لمثل تلك الصِّيَغ الملتوية قِيَمٌ شِعريَّة تسوِّغها، وإنما هو عدم التوفيق إلى التركيب المناسب، أو ربما كان يتعمَّد التعقيد الصياغي؛ لأمرٍ في نفسه أو عقله.
-2-
قال (ابن معقل الأزدي، -644هـ= 1246م)، في كتابه «المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي»(1)، وهو يَردُّ على (ابن جنِّي، -392/ 393هـ=1001/ 1002م)، في شرحه شِعرَ أبي الطيِّب، في كتابه المسمَّى «الفَسْر»:
«وقوله: وكَمْ لَكَ جَدًّا لم تَرَ العَيْنُ وَجْهَهُ... فَلَمْ تَجْرِ في آثارِهِ بِغُروبِ
قال: يقول: إذا لم تُعايِن الشيءَ لم تَعْتَدِدْ به في أكثرِ الأحوال؛ فلذلك ينبغي لك أن تتسلَّى عن (يَماك)، لأنه قد غابَ عن عينك، كما لم تَحزن لأجدادك الماضين الذين لم ترهم.
وأقول: إن هذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى أنه أراد تسليةَ سيف الدولة، فقال: كم لك جَدًّا فُقِدَ عن بُعْدٍ لم تَبكه، فاجعلْ هذا الذي فُقِدَ عن قُربٍ بمنزلته؛ لأنه قد شاركه في الفَقْد، وسواءٌ في ذلك القريب والبعيد.»
وأقول: قد خاب فهمُ (ابن جنِّي) وفهمُ (ابن معقل) معًا! وخيبة ابن معقل أشنع! ذلك أن صدر تفسير ابن جنِّي صحيح، وهو أن الحُزن إنما هو للمُعاينة. أمَّا قوله إن (سيف الدولة) كان ينبغي أن لا يحزن على عبده (يَماك)، كما لم يحزن لأجداده الماضين، الذين لم يرهم، فهُراء؛ فهو قد رأى يَماك وعايشه، بخلاف أجداده. وليت شِعري، كيف رأى ابنُ معقل مزيَّةً لشرحه على شرح ابن جنِّي؟! وهو هو، وإنْ بألفاظ أخرى! والصواب: أن أبا الطيِّب أراد استنباطَ حكمةٍ من الموقف الذي يصوِّره، كنهجه الشِّعري، فقال: إن الحُزن للفَقْد إنما يكون بسبب العِشرة، والأُلفة، والمعرفة، وعلاقات الحضور؛ ولهذا ترى المرء يبكي فُقدان عبده، ولا يبكي فُقدان جَدِّه؛ لأنها قامت بينه وبين الأوَّل علاقاتٌ مباشرةٌ وذكرياتٌ ومواقف، لم تَقُم بينه وبين الآخَر. فالحُزن ليس لمنزلة المفقود منك، نَسبًا أو رحمًا، بل للصِّلة بينكما إنسانيًّا.
ولو أن هؤلاء الشرَّاح استقرأوا قصيدة أبي الطيِّب، لا بيته منفردًا، لربما قاربوا فهمَ مغزاه. أي لو أنهم التفتوا إلى بيتٍ سابق، هو:
تَسَلَّ بِفِكرٍ في أَبيكَ فَإِنَّما... بَكَيتَ فَكانَ الضِّحكُ بَعدَ قَريبِ
وكذا البيت التالي للبيت الذي توقفوا عنده:
فَدَتكَ نُفوسُ الحاسِدينَ فَإِنَّها... مُعَذَّبَةٌ في حَضرَةٍ ومَغيبِ
لو أنهم فعلوا ذلك، لوجدوا إضاءةً لبيت الشاعر الذي استشكلوه واختل فوا فيه. ولأدركوا أنه يقول: إن علاقات الحضور والغياب هي السبب في انبعاث آلام النفس أو عدم انبعاثها، آية ذلك ما أشار إليه من حُزن الأمير على عبده وعدم حُزنه على جَدِّه. غير أن هذا الناموس ينكسر -كما يقول الشاعر- في نفوس حاسدي الأمير؛ من حيث هي معذَّبةٌ به في حضرته والمغيب معًا.
إنه السياق، وما أدراك ما السياق، في مزالق القراءات التي لا تلتفت إليه، بل تأخذ البيت مقتطَعًا، وكأنه القصيدة وحده، في منهجٍ قرائيٍّ تقليدي، ملأ الدنيا وشغل الناس، وقد أعشته وحدة البيت عن وحدة النص.
** **
(1) (2003)، المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي، تحقيق: عبدالعزيز بن ناصر المانع (الرياض: مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلاميَّة)، 1: 21.