بعد أن كان البشر يفسرون كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية تفسيرًا أسطوريًا، انبثق عصر النهضة في أوروبا وتبعه عصر التنوير، اللذين وضعا حجر الأساس لإعادة إنتاج الفكر على أساس التجربة العلمية.
وليس اعتباطًا أن عصر النهضة اعتمد على ما توصلت إليه الحضارة العربية المجيدة، وخاصّة ما توصل إليه بن خلدون، حينما أشار إلى أن التاريخ ليس سردًا لأحداث وحسب، إنما هو «علم». كما أن عبقريته تكمن في:
- أولاً- أنه يجب إعادة قراءة التاريخ السردي الساذج، الذي يمجّد أفعال «الأسياد» وحسب.
ثانيًا- أن التاريخ ضروري كعلم، ليس لمعرفة واقع ما مضى وحسب، بل لإعادة إنتاج «الفكر» على ضوء التجربة التاريخية «العلمية»، وذلك من أجل الحاضر والمستقبل.
بيد أن «التجربة العلمية» الخاصّة بالعلوم الإنسانية تقود «المعرفة» باتجاه واحد؛ وهو أن تطور المجتمع البشري «الطبيعي» يجري دون استغلال فئة قليلة من الناس لسائر البشر الآخرين؛ وما عدا ذلك يصبح التطور الاجتماعي مشوّهًا. ولكن تلك الفئة القليلة من «الأسياد» على مختلف مسمياتهم عبر العصور؛ هي المتحكّمة بالإنتاج الاجتماعي على مختلف حقوله؛ بما في ذلك الإنتاج «العلمي». إذن كيف يمكنها تفادي الفضيحة التاريخية العلمية؛ بأن «استغلال الإنسان للإنسان» عائق أمام التطور والازدهار؟
آخر وأسوأ نوع من «الأسياد» المتحكمين بالطبيعة والمجتمع، هم «الرأسماليون الحاليون»، حيث وصل غيّهِم في الطبيعة إلى الاحتباس الحراري الحالي، الذي يهدد بفناء الحياة على الكوكب. ويصرّون على رفض أية قوانين أو «اتفاقيات «دولية» تحد من نشاطهم التدميري للطبيعة!. شيء واحد فقط يهمهم، ألا وهو تحقيق أكبر قدر من الربح؛ حتى لو زهقت أرواح البشر جميعًا.
أما في العلوم الإنسانية، فقد حاولوا «اعتقال العلم» بواسطة طمس الحقيقة معرفيًا. وأكبر مثال على ذلك ما فعلوه بما توصّل إليه العالم الأمريكي المرموق «هنري مورغان»، الذي أجرى دراسة «علمية» على الهنود الحمر قبل «إبادتهم»، واكتشف أن اللبنة الأولى لتكوين المجتمع هي «القبيلة»، وليس «العائلة الصغرى» كما يدّعي علم الاجتماع الرأسمالي!. كما أشار إلى أن «القبيلة» ليست بالمفهوم المتداول الحالي، إنما هي شيء آخر، ابتكره البدائيون لتنظيم المجتمع على ضوء ما تم اكتشافه من حقائق «علمية» في ذلك الوقت!. وبالتالي يكون «المجتمع» ذاته هو اللبنة الأولى التي انبثقت منها سائر التكوينات الأصغر!.
قيل عن هنري مورغان أنه «دارون علم الاجتماع»؛ مثلما كان ومازال بن خلدون «دارون علم التاريخ»؛ وماركس «دارون علم الفلسفة». ولكن الذي يحز بالنفس؛ أن الأغلبية العظمى من الأمريكان لا يعلمون من هو هنري مورغان، والقلّة القليلة التي تعلم من هو؛ معظمهم لا يعلمون ما هي مأثرته؛ ومن يعلم من علماء الاجتماع الأمريكان ما هي مأثرة هنري مورغان؛ لا يستطيعون «تعليمها» لتلاميذهم بسبب السيف الرقابي «العلمي» المسلط على رقابهم؛ فهل سينبثق من هذه القلة القليلة تيار يطالب بـ«حرية العلم»؛ وعدم تدميره؟ كما هو الحال بالنسبة لتيار «الخضر»، الذي يطالب بعدم تدمير الطبيعة.
** **
- د. عادل العلي