رمضان جريدي العنزي
البارحة جاءتني طيوف الماضي الجميل، بيتنا الطيني العتيق، وصوت المزراب في يوم مطير، كأنه سيمفونية آخذة، رائحة الأرض، وفوح الطين، والزقاق الترابي الضيق، والشجرة وعش العصفور الصغير، ومنظر ألوان الطيف بعد سحابة ماطرة، يمتد من فوق إلى تخوم حيِّنا العتيق، وباحة الدار، وخبز عمتي على الصاج، وحينًا على التنور، وغرفتي القديمة التي بلا سرير ولا ستارة، سوى مخدة قش، وفراش قطن وحصيرة، وحين يجيء الشتاء ألوذ باللحاف، وأسمع صوت المطر والرعد، وأرى البرق من شباك غرفتي يضيء، وبركة الماء التي نسبح فيها نهارًا، مثل فراشات تطير في المدى حالمة، ننتشي بالكلام وبالتحدي، قلوبنا على شكل زهرة، وأرواحنا بلورات من ذهب، ملابسنا شبه رثة، وأقدامنا حافية، نركض في زوايا الحي، ونحلم كثيرًا على سطوة الوقت، ننتظر مسرات قد تهطل من خلف زجاج أحلامنا الصغيرة، هو الليل في حيّنا العتيق، من أول هذيانه ينساب قصائد عشق تليد، والألفة بيننا عامرة، وحياتنا بطعم البنفسج، أينما التفتنا جاءنا الفرح، مدهشة تلك الحياة، شهد كطعم العسل، ما عندنا احتمال معطل، ولا كلام مكرر، ولا سأم بطيء، ولا عندنا قلق، والحب بيننا كبير، نغازل ظلنا، ونعشق مقبلات السحاب، وننتشي لصوت المؤذن حين يؤذن لوقت الصباح، يجلب للنفس السعادة والخدر، نصوغ الحديث، نقول القصيد، ونسقي أرواحنا ببعض النشيد، نغيب في لعبنا البريء، ندور ونهذي، ونصغي للعصافير حين تعود لأعشاشها محملة بالتعب، لنا لعبتان (عظيم ساري) و(الغميمة)، وحديثنا المراهق من فجوتين، وتصاويرنا مبثوثة، لنا أحلامنا، مثل نوارس لها أحلامها، ولا نريد أن تكون عقولنا عاطلة، تعلمنا المشي حفاة النوايا، وقلوبنا بيضاء، ووجوهنا بلا أقنعة، ما عندنا كوابيس، ولا وحشة خوف، ولا ندور في الفراغ الممل، لنا ظلنا، وحجتنا والقرار، وطيبنا مثل صفصافة عامرة، وفضاءاتنا غائمة، هي السنون راحت كعصف المنايا، وصبت عواصفها في جنوح الوداع، وأيقظت فيّ عوالمي الوادعة، نصف قرن مضى وما زلت طفلاً بريئًا تتدلى من سقف بنائي عناقيد التعب، أتكئ عليها، وأحاور أسفارها الهائمة، نصف قرن، وما زلت أنا، وقلبي يطير بشكل عجيب، أسأل نفسي كل ضحى عن حيّنا الذي كان، عن صحبنا، عن دكان عمي الصغير، عن عربة الكاز الخشبية التي يجرها حمار، وعن ممرات التراب، مشحونة روحي دائمًا بتلك الحياة، وتلك الصور، فلا تعجبوا إذا ما هزني وجد لتلك الذكريات التليدة.