أول مرة رأيت فيها الدكتور عبدالرحمن الشبيلي وتعرفت عليه كان عمري ربما (10) سنوات تقريباً، كنت وأخي زياد (8) سنوات بصحبة والدي -حفظه الله- الذي كان يأخذنا (أنا وزياد) دائماً معه إلى مكتبه في صحيفة الدعوة إذ كان رئيساً لتحريرها آنذاك، وحين خرج والدي من المكتب ذلك اليوم مروراً بالديرة وفي ساحة الصفاة تحديداً التقى شاباً وسيماً أنيقاً (لم أكن أعرف ذلك الحين هذه المفردات لكنها كانت لسان الحال)، سلَّما وتحادثا دقائق وافترقا، سألنا أبي (من هذا يبه؟) فقال هذا عبدالرحمن الشبيلي مدير التلفزيون. وآخر مرة رأيته فيها كانت في اليوم الذي سافر فيه إلى باريس في رحلته النهائية -رحمه الله-، كان يوم الجمعة وقد شرفنا بالزيارة مع مجموعة من الأصدقاء الأوفياء، سألته في ذلك اللقاء الأخير عن عبدالرحمن بن طلال وكان يصطحبه معه في زياراته (أين عبدالرحمن الحفيد لم يعد يأتي معك؟) فقال لي: خلاص عبدالرحمن كبر وصار مستقلاً، ثم ودّعنا ولم نكن دري أنه الوداع الأخير!
بين هذين اللقاءين الأول والأخير وعلى امتداد خمسين سنة كانت لقاءات عديدة جمعتنا به في مناسبات سعيدة إلا مرة واحدة حين حضرنا جنازة ابنه الوحيد طلال -رحمه الله- وكان ونحن نعزيه صابراً متجلداً رغم فداحة الألم وعظم المصيبة -جمعه الله به في الفردوس الأعلى. ولمَّا بُلِّغنا قبل يومين خبر سقوطه من بلكونة منزله في باريس تعلقت قلوبنا بالأمل أن يسلم من عثرته تلك ويشفى، لكن هذا الأمل سرعان ما قُطع حبله في ليلة وضحاها حتى جاء الخبر الفاجع من الغد بموته -رحمه الله-، حينها قلت في نفسي أيها الحجر الفرنسي المشؤوم أما وجدت ما تصيب به هذا الرجل إلا في (دماغه) الفذ وتحرمه وتحرمنا ذلك العقل النيّر والذاكرة الوثائقية والثقافة الموسوعية، كنّا نؤمل في المزيد من مقالاته الشيقة ومؤلفاته الرصينة لكن القدر كان أسبق، ولله الأمر من قبل ومن بعد. هذا الرجل النبيل سيكتب عنه في رثائه الكثير وهو يستحق كل ما يقال عنه من ثناء، وسيتفق الجميع على صفات شخصية تميّز بها الدكتور عبدالرحمن -رحمه الله-، أبرزها أناقته، وكان أنيقاً بالمعنى الشامل لهذا الوصف، أنيقاً في ملبسه، أنيقاً في كلامه وعباراته، أنيقاً في قلمه وكتاباته، كان إنساناً يقطر أناقة ووداعة ولطفاً. وقد أجاد أخي زياد في وصفه فقال: يمشي بتوازن كالنبلاء ويتحدث باتزان كالحكماء. الصفة الثانية التي يجمع عليها كل من عرف عبدالرحمن الشبيلي معرفة لصيقة أو التقاه لقاء عابراً هي (حسن الخلق) والأدب الجمّ مع الجميع الكبير والصغير الوجيه والوضيع، لا يحتدّ ولا يشتطّ، لا يهذر ولا يجادل، يتكلم حين يجب الكلام ويمسك حين يحسن الصمت. وبهذا الخلق والأدب كثر أحبابه والمعترفون بفضله، وإنه يُغبط على هذه النعمة ويُرجى له بها المنزلة الكريمة في الآخرة، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً والذين يألفون ويؤلفون)، وقد كان عبدالرحمن الشبيلي على جانب كبير من هذا الخلق، فهنيئاً له ذلك. أبا طلال.. إن حجم الفقد فيك هو بقدر قيمة وجودك بيننا والفراغ الذي سيحدثه فراقك. رحمك الله وإلى اللقاء برحمة الله في جنات عدن.
** **
- سامي بن عبدالله الدريس