د. عبدالواحد الحميد
كتبتُ على امتداد سنوات رحلتي الكتابية عشرات المقالات في رثاء بعض مَن رحلوا من الأصدقاء والأحبة والمعارف وأهل الفضل، فلم أجد صعوبة في الكتابة كما أجدها الآن وأنا أحاول أن أكتب عن والدي خالد بن عقلا الحميد تحت وطأة مرارة الرحيل والفَقْد الفادح الكبير.
أجد اليوم أن كل ما يحمله قاموس اللغة من مفردات عاجزٌ عن استيعاب مشاعر الحزن اللاهبة التي تضطرم في الأعماق؛ فيستعصي على القلم خطُّ كلمة واحدة؛ ذلك أن رحيل الأب يأخذ الإنسان إلى زمن سحيق، كان فيه طفلاً صغيرًا، يتعلق بأثواب والده، ويحتمي به من عجزه وقِلة حيلته أمام عاديات الزمان والحياة.. وها أنا أعود طفلاً عاجزًا باكيًا، أبحث عن أبي الذي كنتُ أرى المرض يفترسه في سنواته الأخيرة إلى أن رحل ذات فجر، وتركني ومحبيه مكسوري القلوب في رحلة لا إياب منها.
كان والدي في طفولتي يسافر كثيرًا في رحلات قصيرة بحكم عمله، وكانت رحلاته تغمرنا بالفرح؛ لأنه كان يعود من العاصمة محمَّلاً بالهدايا من الألعاب والملابس ومجلات الأطفال والأشياء الأخرى الجميلة التي لم نكن نجدها في مدينتا الصغيرة البعيدة عن العاصمة وعن المدن الكبرى.
ظل الوالد كثير الترحال حتى بعد تقاعده عن العمل، لكن رحلاته في سنواته الأخيرة كانت للاستطباب في المستشفيات الكبرى في العاصمة وخارج البلاد، ولم يكن فيها ما يبهج بعد أن اشتد عليه المرض، وآذاه، وأحكم عليه بالعزلة في حله وترحاله. ثم كانت رحلته الأخيرة فَجْر يوم السبت 3 ذي القعدة 1440هـ (6 يوليو 2019م)، تلك الرحلة التي أغرقتنا في بحر من الحزن والدموع ونحن نودع الوالد الحبيب وداعًا لا لقاء بعده في هذه الدنيا، مع يقين ثابت ودعاء لا ينقطع أن يجمعنا الله سبحانه وتعالى في جنات النعيم!
الفراغ الذي يتركه رحيل الأب في حياة أسرته هائلٌ ومفزع بما يفوق الوصف، فكيف إذا كان الراحل مثل أبي في حدبه على أسرته، والتفاني في خدمة الصغير منهم والكبير في كل شأن من شؤونهم، والإغداق غير المحدود في توفير كل ما يحتاجون إليه حتى عندما بلغ من العمر ما يجعله في موقع مَن يحتاج إلى الخدمة لا مَن يقدمها للآخرين!؟
لم يكن الوالد -رحمه الله- يطلب من أبنائه أو بناته أي مساعدة حتى في أبسط الأمور الحياتية، فكان في معظم الأحوال يخدم نفسه بنفسه إلى أن اشتد عليه مرضه الأخير، وكان ذلك يحرجنا ويربكنا.
ومع كل هذا الحدب اللامتناهٍ على أفراد أسرته، والعطاء غير المحدود لكل واحد منهم، لم يكن الوالد يتدخل على الإطلاق في شؤون أبنائه وبناته! لم يتدخل في خياراتنا المتعلقة بالدراسة أو التخصص أو الزواج أو نوع ومكان العمل والإقامة، بالرغم من ثقافته الواسعة، وتجاربه الحياتية العريضة التي جعلت لرؤاه وزنًا راجحًا من الحكمة والتبصر؛ فكان يكتفي بتقديم الرأي والنصيحة عندما نستشيره، ثم يترك الخيار الكامل لنا.
في طفولته لم تكن هنالك مدارس نظامية في سكاكا ـ الجوف؛ فاتجه إلى الكتاتيب، ودرس على يد بعض المشايخ، ومن أبرزهم الشيخ فيصل المبارك قاضي الجوف الأشهر - رحمه الله -، فحفظ القرآن الكريم كاملاً.
وعندما افتتحت مدرسة نظامية ابتدائية التحق بها، ثم توظف في الحكومة بعد تخرجه، وكان الحصول على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية في ذلك الزمان يعتبر إنجازًا كبيرًا.
وبعد توظفه وانخراطه في العمل الحكومي سنوات عدة تم افتتاح مدرسة متوسطة، ثم مدرسة ثانوية بالجوف؛ فالتحق بالدراسة الليلة، ونال قسطًا من التعليم الحديث، وتفتحت آفاقه؛ ليكتشف عالم القراءة والصحافة، ويبحر في ذلك العالم قارئًا وكاتبًا وصحفيًّا، فضلاً عن موهبته الشعرية الفطرية التي رسخت اسمه في مصاف كبار شعراء النبط من أهل الجوف.
كان الوالد قارئًا نهمًا، وكان يحرص على اقتناء الكتب في شتى المجالات، ويجلبها من الرياض وجدة ومكة في رحلاته المتكررة.
وبمضي الوقت صار لدينا في المنزل مكتبة صغيرة متاحة لكل أفراد الأسرة، ثم توسعت لتحتل غرفة كاملة.
وبعد ذلك أقام الوالد مكتبة تجارية في سكاكا؛ فكانت بعض الصحف والمجلات المحلية والخليجية والعربية ومختلف أنواع الكتب تصل إلى المكتبة؛ فيتلقفها الشباب المتعطش للقراءة واقتناء الصحف والمجلات والكتب.
في هذه الأثناء كان الوالد يكتب المقالات والتقارير الصحفية والأخبار عن الجوف، والمطالب التنموية للمنطقة، ومنها ما كان ينشره في الجزيرة عندما كانت مجلة شهرية، ثم صحيفة أسبوعية، ثم يومية، وكذلك جريدة الرياض ومجلة اليمامة عندما كانت صحيفة بحجم التابلويد، وجريدة القصيم، ومجلة المنهل.. وغيرها، ثم تفرغ في نشاطه الصحفي بمراسلة جريدة الجزيرة؛ فكان مراسلاً للجزيرة في الجوف، ثم مديرًا لمكتبها في المنطقة.
وقد أمضى مدة ثمانية وثلاثين عامًا مراسلاً لجريدة الجزيرة ومديرًا لمكتبها في الجوف؛ وأقامت له الجزيرة حفل تكريم بمناسبة تقاعده بمبادرة كريمة من الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير الجزيرة. كان الوالد مرتبطًا بمنطقته ومسقط رأسه؛ فاعتذر عن الترقيات في وظيفته الحكومية عندما اقترنت الترقيات بالإقامة خارج الجوف، كما اعتذر عن بعض الفرص الوظيفية التي كان يعرضها عليه أصدقاؤه في الرياض.
وقد عكست قصائده الكثيرة عن الجوف وأهلها حبه لمنطقته، كما عكست نشاطه الصحفي والكتابي الذي كرسه لقضايا ومطالب التنمية في الجوف.
ورغم تعلقه الشديد بمنطقة الجوف فإن الوالد -رحمه الله- لم يكن منكفئًا على نفسه وعلى المنطقة، ولا منعزلاً عن قضايا الوطن؛ وتشهد بذلك قصائده التي كان يقولها في المناسبات الوطنية؛ فيرددها الناس في العرضات التي تُقام في اليوم الوطني للمملكة، بل إن أشعاره عانقت واحتضنت القضايا الكبرى للوطن العربي، كقضية فلسطين وتحرير الجزائر، وغيرهما.
وفي عام 1426هـ/ 2005م أصدر كتابه «شعراء من الجوف»، ضمَّنه بعض قصائده النبطية، وقصائد بعض ألمع شعراء الجوف في هذا المجال. وهو كتاب مرجعي؛ إذ إن الكثير من القصائد التي أوردها في الكتاب كانت مما حفظه كبار السن سابقًا في صدورهم، ورحلوا قبل أن يتم تدوينها؛ فكانت عُرضة للضياع مثل الكثير من الشعر الذي لم يدوَّن.
ومن المعروف عن الوالد ولعه بالتدوين والتوثيق لشعراء المنطقة، والشعر الذي ورد فيه ذكر الجوف، وكان يحتفظ بالكثير من هذه القصائد، ولم ينشر كل ما لديه؛ وذلك تجنبًا لإثارة بعض الحساسيات الاجتماعية والتاريخية.
كان رحيل الوالد -رحمه الله- فاجعة كبرى، وكان لوقفة المحبين والأصدقاء من داخل الجوف وخارجها أكبر الأثر في تخفيف لوعة الفراق على الأسرة، وفي المقدمة تلك المواساة التي تفضل بها والد الجميع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله-، والكثير الكثير من الأفاضل في أنحاء المملكة.
أسأل الله تعالى أن يرحم الوالد، ويدخله فسيح جناته، وألا يُري الجميع مكروهًا في مَن يحبونه.