د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
* * حين ابتدأت نجوميتُه كان يكتب في مجلة اليمامة (ولا علم لدى صاحبكم إن كانت كتابة منتظمة أم عابرة) واستوقف الفتى حينها مقالٌ جميلٌ له عن الوقت حيث كان في انتظار صديقه الذي تأخر عليه عندما مرت به طفلة صغيرة تسأله عن الوقت فعجب منها واستفهم عن سبب عنايتها بشيءٍ من شؤون الكبار فأخبرته عن موعد مع صديقتها، وغادرته ولم يحضر صديقُه، وختم مقالته بشكرها وشكر أهلها على تربيتهم وبرسالةٍ إلى صديقه حيث ما زال ينتظره.
* * راق المقال لصاحبكم ربما لملامسته بعض ما أهمَّه في إدارة الوقت، وربما لأن سطوره صيغت بإمضاء نجم إعلامي بارز، وربما لأن الفتى كان يمر ببيت النجم» القديم» وقت صلاة الجمعة في حي «الضليعة»، كما يرى سيارته الفارهة - بمقاييس ذلك الزمن – عندما يزور النجمُ أخته بحي «القرعاوية» المجاور لمنزل الفتى، «وكلا الحيّين في عنيزة»، وليس غريبًا أن يتعلق فتىً شادٍ برمزٍ متمكن، غير أنه ظلَّ يَذكره ويُذكِّر به بعدما جمعهما الزمن في استوديوهات الإذاعة وشارك أستاذه في برامج ونشرات محدودة لكنها ثرية وأثيرة.
* * بقي الكبيركبيرًا؛ وكُلف مرة بتقديم برنامج « العرب في الصحافة العالمية» الذي أعدَّه زمنًا خصبًا الأستاذ عبدُالكريم بياضو من إدارة الأخبار وأُوكل تقديمُه لأستاذنا القدير إبراهيم الذهبي- رحمه الله- ولصاحبكم؛ فحضر أبو خالد بالنيابة عن أبي نضال، ولم تكن الشارةُ مسجلةً؛ فقدمها الأستاذ محمد الرشيد بهذه الصورة:
(إذاعة المملكة العربية السعودية من الرياض
العرب في الصِّحافة العالمية
إعداد: عبدالكريم بياضو
تقديم: إبراهيم التركي ومحمد الرشيد)
فقطع صاحبُكم التسجيل وطلب من منفذ البرنامج إعادةَ الجزء الأخير من الشارة بصوته هكذا:
(تقديم: محمد الرشيد وإبراهيم التركي)
فعتب أبو خالد بلطفه وبساطته أنْ لا فرق، وأيقن صاحبكم أنها فوارق التواضع والخلق الكريم، وعلى من يحسب الموضوع شكليًا أن يفهم التراتبية الإذاعية الصارمة المبنية على الأقدمية، وربما رشحت خلافاتٌ بسبب مَن يتقدم من.
* * محمد الرشيد إذاعيٌ غيرُ متكلف؛ يذيع على سجيته، يقيم اللغة دون أن يتساءل عن الإعراب، يبدو لباسه عاديًا لناظره فإذا خرج على المشاهدين بدا بأجمل حلة، لا تعنيه المراسم والالتزامات، يستعجل فيقرأ النشرة الإذاعية بنفَسٍ واحد، ويتأنى فيردد النص الشعريَّ مرات، ينثر أوراق النشرة حينًا ويرتبها حينًا، ولا يعتب عليه محرر أو مذيع أو فني؛ فكذا هو محمد الرشيد؛ تحبه فتَقْبله بكلِّه لا بأجزائه، يتسابق الجميع لتحيته والرغبة في الجلوس معه والاستمتاع بعفويته وحكاياته وضحكته المميزة، وحين كنا طلبةً في الجامعة دعانا صديق له للمشاركة في برنامج مسابقات إذاعي يقدمه، وكنا ستة أصدقاء جمعنا في بيته وقسمنا إلى فريقين، وكنا نرفع أصواتنا بالتصفيق كي يبدو البرنامج جماهيريًا، وفزنا بألف ريال (سبع مئة للفريق الفائز وثلاث مئة للفريق الخاسر)، وقبل زمن الاحتراف الرياضي بعقود لعب أبو خالد لناديي مدينته: العربي والنجمة؛ فلا يُحسب على أيٍ منهما بل في كليهما، وقلةٌ من يعرفون أن عائلته هي الحميدان وليس الرشيد ولا العثمان فقد غلب اسمُ شهرته اسمَ أسرته.
* * زهد في الوسط الإعلامي بعد تقاعده فلا يكاد يُرى، ودعاه صاحبكم إلى مناسبات خاصة وثقافية فوعد ولم يُتمّ وعده، وأبلغنا أستاذنا الوفي محمد بن عثمان المنصور أنه رتب معه موعدًا لزيارته بمنزله فاعتذر لوجوده في عنيزة وقت عيد الفطر مؤكدًا سعادته باستقبال الزملاء بعده، ولعله شاء الاعتذار دون « لا»، أو لعل القضاء سبق اللقاء.
** في مهاتفاتهما القليلة كان أبو خالد معتزًا بأولاده؛ فهذه قانونية بارزة وتلك طبيبة معروفة وسواهما ناجحون في أعمالهم، ولعله آثر التفرغ لبيته بعدما شغله عنه ثلث قرن من الوهج الإعلامي المنطفئ؛ مدركًا أنه السرابُ ولا ماء، كما هو الركض دون وصول، وليت من تُعشيهم الأضواء زمنًا يدركون أنها حسرةٌ لا تنحسر، وأن من « أبطأ به عملُه لم يسرع به نسبُه»، والأكثر حظًا من وعى أن حياة الإعلاميين غيرِ المنتفعين نصبٌ لا منصب، أما من شاءه مكسبًا ماديًا فهو الغرم لا الغُنم، وأمام العلي القوي ستحاسب كل يد بما كتبت وكل نفس بما كسبت وكل صوتٍ بما نطق وانتطق.
* * كان أبو خالد إنسانًا تلقائيًا وصوتًا إذاعيًا وشاعرًا وجدانيًا؛ فاللهم اعفُ عنه وأسكنه عليين.
* * الحياة ما يجيء لا ما يفيء.
* برمَّانا - لبنان