ميسون أبو بكر
ما كنت أعلم أن الشرفة التي تطل على الحياة مظلتها سماء ممتدة بلون اللازورد، وموسيقاها تغريد المخلوقات السماوية وشدوها؛ أنها ستكون ناصية للموت وسببًا في حرماننا من معلم كبير ومؤرخ قدير وإعلامي أزعم أن معظمنا كإعلاميين مرَّ من مدرسته الإعلامية في الحياة، سواء بالعمل معه أو النهل من كتبه أو ندواته أو التلقي المباشر من علمه وتوجيهاته، وقد كنت من سعداء الحظ وإحدى أولئك، حيث لم أعاصره حين تبوأ مناصب عدة في الإذاعة والتلفزيون السعودي الذي قدمت به 1700 حلقة تلفزيونية؛ لكن قدر لي أن أقوم بدور المستضيف في أحد برامجي» ذات وكتاب» وكان هو ضيفًا ثمينًا ومن العيار الثقيل، وكان صبورًا كفاية لتحمل عناء التصوير خارج الاستديو مع إمكاناتنا الفنية المتواضعة، والتي تحدثنا وقتها عن ضرورة تطوّر الإعلام التلفزيوني والعاملين فيه من كوادر ليواكب ما تمر به المملكة وما يوازي مكانتها وثقلها الإعلامي، وكنت أخشى أي ورطة قد نقع فيها كفريق أثناء التصوير بخاصة أننا بحضرة عملاق أسهم في تأسيس التلفزيون السعودي منذ وقت مبكر وهو ناقد دقيق ذو عين فاحصة وتجربة ممتدة.
المؤرخ والباحث الإعلامي د. عبدالرحمن الشبيلي أشار أكثر من مرة بأن حياته شكلتها الصدف، حيث دخل الإعلام والتلفزيون والتعليم العالي والشورى بطريق الصدفة التي لم يخطط لها أبدًا، ولكن بصمته كانت واضحة جلية في كل مكان حل فيه، ولعلنا إلى الآن نستعيد لقاءه التاريخي بالملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - أمير الرياض آنذاك في برنامج «مؤتمر صحافي» الذي أجراه الشبيلي عام 1992 وما أحاط اللقاء من شفافية مسؤول كبير كأمير الرياض وبراعة مقدم قدير هو عبدالرحمن الشبيلي.
في منزله خصص الملحق في باحة الدار ديوانية للباحثين وأصدقاء الفكر، وجعله مخزنًا للفكر قبل أن يكون مخزنًا للكتب ومجرد أرفف للوثائق والمخطوطات والسير.
كان رحمه الله دقيقًا في بحثه، مؤثرًا في حديثه وندواته، حاضرًا في تأريخ مناطق المملكة وأعلامها، ولن أنسى رحلاته إلى عنيزة والغاط لمؤتمرات وندوات سنوية، وله في دارة حمد الجاسر صولات وجولات وبصمات علمية ستبقى لطالبي العلم ومحبي التاريخ، وإن كتابه الأخير «مشيناها.. حكايات ذات» وثق مسيرته الثرية التي -والحمد لله- قد تمكن من توثيقها قبل رحيله المفاجئ.
سنذكر أن الوطن كان كريمًا في تكريم ابنه المثابر ووضعه بالمكانة التي تليق به، حيث رأس لجنان الثقافة في وزارة الثقافة والإعلام قبل أعوام وكرم بوسام الملك عبدالعزيز في مهرجان الثقافة والتراث «الجنادرية». ولا يفوتني أن أشير أنه أول سعودي يحصل على شهادة الدكتوراه في الإعلام.
رحل الشبيلي تاركًا إرثًا كبيرًا من الكتب والبحوث والمخطوطات والبرامج تؤرخ لوطن عظيم وأعلام مهمين من أعمدته، رحل وسنظل نذكره مع أبنائه الذين لطالما كان يفتخر بهم ويذكرهم كجزء من تاريخ عالمه: رشا وشادن وأحفاده من ابنه طلال رحمه الله.
كلما ذكرت مدينة النور وهطل المطر ستكون غصة، لأننا سنذكر الحادث المأساوي الذي تسبب في رحيله باكرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.