د. محمد بن يحيى الفال
بالكاد ما أن مر نقض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقانون الخاص بتقييد بيع أسلحة متقدمة لكل من المملكة ودولة الإمارات العربية المتحدة، والذي رُفع للرئيس لإقراره من قبل الهيئة التشريعية الأمريكية والمتمثلة في الكونجرس، حتى رأينا الكونجرس نفسه وفي عجلة من الأمر يقر قوانين أخرى تستهدف المملكة وبطريقة لا تخفى على المهتمين بالشأن السياسي والمحللين السياسيين بأن هناك عوامل داخلية وخارجية تقف من وراء هذا الكم غير المسبوق من التشريعات المُسيسة من ألفها إلى يائها، والتي لو قُدِّر لها أن تُقر فسوف تضع مسماراً عصياً على الانتزاع في مستقبل العلاقات السعودية - الأمريكية.
قبل الخوض في العوامل التي تحرك الكونجرس لمثل هذه التصرفات الخاطئة وغير المحسوبة العواقب لا بد من الإشارة هنا إلى أن من القوانين التي رفعها الكونجرس للرئيس لإقرارها، وفيما يتعلق بحظر تصدير أنواع متقدمة من الأسلحة الأمريكية ونقضها الرئيس لم تكن المملكة والإمارات وحدهما المستهدفين من مشروع القرار، بل شمل كذلك دولاً حليفة وصديقة للولايات المتحدة الأمريكية وشريكة لها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهذه الدول هي كل من بريطانيا، فرنسا، اسبانيا وإيطاليا.
ولعل بداية تتبع تخبط الكونجرس في تشريعاته المثيرة للجدل ضد دول حليفة وصديقة للولايات المتحدة نراه جلياً وواضحاً في إقرار الكونجرس لحظر بيع أنواع متقدمة من السلاح لهذه الدول، وهو الأمر الذي يقودنا إلى أحد أهم العوامل والتي جعلت من الكونجرس يتخذ مثل هذا الإجراء، ويتمثل هذا العامل في الصراع الداخلي بين كل من الرئيس ترامب من جهة والكونجرس من جهة أخرى، ونرى بكل وضوح لا غبار عليه أن هذا الصراع احتدم وأضحي محموماً بعد نشر المحقق الخاص روبرت مولر تقريره بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية الرئاسية الأخيرة والتي فاز بها الرئيس ترامب ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. الغبن الذي أحس به الديمقراطيين لعدم كفاية الأدلة وكما جاء في تقرير مولر والذي لم يستطع أن يثبت في تقريره ضلوع الرئيس مع الروس في التأثير على نتائج الانتخابات أو تزويرها، وهو الأمر الذي كان الديمقراطيون يطمعون به للبدء في إجراءات عزل الرئيس من منصبه.
قد يقول قائل ما هي الفائدة التي ستعود على الحزب الديمقراطي من عزل الرئيس وهو لم يتبقَ له من عهدة ولايته الأولي سوى سنة ونيف، والإجابة عن ذلك تكمن في أن الشروع بترتيبات العزل والتي لن يكتب لها النجاح ستقوض كثيراً في إمكانية إعادة انتخابه لولاية ثانية خصوصاً أن الديمقراطيين فطنوا إلى أنهم يواجهون خصماً عنيداً له قدرة عجيبة لم يقم بها من قبل رئيس أمريكي في التأثير على الرأي العام الأمريكي، من خلال استنهاض قيم الانتماء القومي للوطنية الأمريكية، ورأينا ذلك واضحاً في الداخل من خلال العرض العسكري في احتفالات الرابع من يوليو ذكرى استقلال أمريكا عن بريطانيا، وكذلك من خلال صراعه مع النائبات الديمقراطيات المنتسبات لأسر هاجرت للولايات المتحدة.
تتمثل آلية إقرار التشريعات في الكونجرس الأمريكي بغرفتيه العليا والمتمثلة بمجلس الشيوخ والمكون من مائة سيناتور، اثنان عن كل ولاية من الولايات الأمريكية الخمسين بغالبية جمهورية، وغرفته السفلي والمتمثلة بمجلس النواب (ممثلي الشعب) ويتكون من 435 نائباً وبأغلبية ديمقراطية، ويحتاج القانون لتمريره إلى 51 سيناتور لتمريره في مقابل 218 صوتاً في مجلس النواب لتقريره، يرفع بعدها مشروع القانون للرئيس لإقراره وله حق نقضه وإعادته للكونجرس والذي يستطيع بدوره أن ينقضه إذا صوت لذلك كل من ثلثي مجلس الشيوخ ومجلس النواب. ويمكن وصف الكونجرس الأمريكي الحالي بكونه مجلساً على غير اتفاق ووفاق مع الرئيس سواء من منافسيه الديمقراطيين أو من حزبه الجمهوري الذي يعتبر الكثيرون منهم بأن الرئيس ترامب لم يكن في يوماً من الأيام جمهورياً حقيقاً. في الغالب أن تكون هناك بعض الاختلافات بين الرئيس والكونجرس بين الفينة والأخرى، ولكن أن يضحى الأمر ممنهجا ويضر بشكل كبير بمصالح أمريكا مع حلفائها حول العالم، وهو الأمر الذي وضحه الرئيس في سبب نقضه لقرارات الكونجرس المتعلقة بمبيعات الأسلحة. كذلك يبدو في الأفق عامل آخر بدأت تتضح بعض ملامحه وهو دور مجموعات الضغط (Lobbies)، في التأثير على أعضاء الكونجرس لتمرير قرارات تستهدف دولاً صديقة للولايات المتحدة كما هو حال مع المملكة. نرى ذلك بوضوح في مشروع غريب عجيب يضع الكثير من علامات الاستفهام والشك والريبة حول دور جماعات الضغط المعادية للمملكة في السعي لإقراره وهو القانون المُسمى بقانون مراجعة العلاقات السعودية - الأمريكية (SADRA)، ترفعه الخارجية الأمريكية للكونجرس في غضون 270 يوماً بالتعاون مع كل من وزارة الدفاع، الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخزانة بالمخاطر المزعومة لعلاقة أمريكا بالمملكة وعلاقة المملكة بدول منافسة لأمريكا. قانون أقل ما يقال عنه إنه مثير للشفقة وكأنه قد فات على من ورائه بأنه لا يتعامل مع جمهورية موز يحركها كيف ومتى شاء. المضحك هنا أن السيناتور كريس ميرفي عضو مجلس النواب من ولاية كونيتيكت صرح بتصريح لا يصدر عن طالب في المستوى الأول من طلاب العلوم السياسية، حيث قال ن الحرب في اليمن تهدد الأمن القومي الأمريكي! الحرب التي استهدفت منها حكومة الملالي من خلال عصابتهم الانقلابية السيطرة على أحد أهم طرق التجارة العالمية المتمثل في باب المندب، لتجعله لعبة في يدهاتهديد العالم في أحد أهم طرق تزويده بالطاقة كما هو الحال حالياً مع مضيق هرمز.
غالب الظن أنه فات على السيناتور العبقري أن هناك حزمة من القرارات الدولية سعت لها المملكة من اليوم الأول لنشوب الحرب، وأقرت خلال شهر من اندلاعها لو طبقت ووجدت دعماً دولياً لانتهت الحرب في الشهر الأول من اندلاعها، فات على السيناتور الفذ أن يعرف أن المملكة وفي سابقة تاريخية قامت وخلال الشهر الأول من الحرب بإنشاء مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، كان الهدف المحوري منه هو التخفيف على الأشقاء اليمنيين من معاناة الحرب، ودعمت اليمن قبل وبعد الحرب بمليارات الدولارات من أغذية ومستشفيات ومشاريع مياه وبنية تحتية لمعرفتها الأكيدة بأن حتى مصطلح «مدنيين» لا وجود له في أدبيات عصابة انقلابية مأجورة.
حاول الكونجرس في السابق تقويض العلاقات السعودية - الأمريكية من خلال إقراره لقانون جاستا (Justice Against Sponsors of Terrorism Act)، والذي نقضه الرئيس باراك أوباما، ومع إقرار القانون فإنه لم يجد قبولاً من قبل السلطة القضائية الأمريكية التي لم تجد فيه سوى قانوناً مسيساً لا يُعتد به في المحاكم الأمريكية، وكما فشل جاستا سوف يفشل غيرها من تشريعات لا منطقية وغير عادلة بسبب حقيقة ثابتة وهي أن العلاقات السعودية - الأمريكية علاقات متجذرة بنيت على مدار عقود من الثقة والمصالح المشتركة وأثبت الأيام والأحداث بأنها عصية على الكسر.