د.فوزية أبو خالد
أرسل لي الابن إبراهيم الدعيجاني (دكتور قريبًا بإذن الله) مقالا ملفتًا كتبته بولا سبان في علاقة الأجداد بالأحفاد من منظور سيسيولوجي بحسب بحوث قامت برصد تغيرات تشهدها هذه العلاقة في تحولها من علاقة «تدليلية» لعلاقة تناط عليها مسؤوليات تربوية مباشرة في المجتمع الأمريكي بما قد ينطبق على بيئات أخرى تتسم بعمل الوالدين خارج البيت وبعدم توفر بيئة تربوية مساندة موثوقة. وقد ذكرني محتوى المقال بنفسي وبصورة مشابهة لبعض صوري وهي صورة انتشرت انتشارًا واسعًا لوزير خارجية أمريكا الأسبق جون كيري وهو يحمل حفيدته الصغيرة (Toddler) على حجره في اجتماع الجمعية العمومية بالمقر الرئيسي للأمم المتحدة. وقد تناول المقال المشار إليه، وهو مقال نشر الأسبوع الماضي بصحيفة النيويورك تايمز، بضع دراسات لجامعات أمريكية منها جامعة سركيوس تحدثت عن ظاهرة دور الأجداد المكثف في حياة الأحفاد وهي تكاد تكون ظاهرة جديدة بالمجتمع الأمريكي وإن لم تكن كذلك في مجتمعات أخرى ومنها المجتمع العربي. إلا أن المقال بتركيزه على مستجدات الضرورة ليأخذ الأجداد دورًا «فعليًا مجهدًا وجادًا وملتزمًا» في حياة الأحفاد، قد ذكرني أيضًا بما قاله لي أحد الزملاء من أكاديمي الجامعة وكان قد انتقل إلى موقع وزاري بمنصب وكيل وزارة عندما التقيته يدفع عربة حفيدته في أحد العصاري على الممشى التريضي لجامعة الأمير سلطان بطريق الملك عبدالله رحمهما الله، وقد قال: «لم يبقَ إلا أن نصير جلساء أطفال لأحفادنا خارج الدوام (babysitters)». وإن لم تخل جملته من تهكم إلا أنها كانت مشبعة بأريحية حقيقية لواجب نحسه تجاه الأحفاد وخاصة هنا بالمجتمع السعودي، بما لم يمله علينا أحد.
***
وفي هذا السياق سأسمح لنفسي باستعراض فيه فخر يصعب أن أخفيه لواقع تجربتي في دفع عربة مليئة أحيانًا بالأطفال في محافل ثقافية وأكاديمية دولية. وفي حضور اجتماعات رسمية وعلى حجري طفل أو طفلة محمد وعبدالله أو أميرة نور بن بدر من أحفادي، بالضبط مثلما كنتُ أفعل مع آبائهم وأنا آخذهم للجامعة أو لمؤتمر هنا وندوة هناك مع فارق التفاعل بين تجربة الأبناء وتجربة الأحفاد. ولا بأس من مشاركتكم بعض ملامح التجربة الأخيرة فهي محور هذا المقال ومقال الدراسات السيسيولوجية الأمريكية حول تجربة الأجداد في حياة الأحفاد التي سك لها المتخصصون الاجتماعيون هناك مسمى (Intensive Grandparenting) والتي تحتمل عدة ترجمات ومنها «الجهد التربوي المجهد للأجداد»
أو الإسهام التربوي المكثف للأجداد».
فماذا يحدث عندما أجد نفسي وجها لوجه مع حب جديد اسمه حب الأحفاد ومع مسؤولية خطيرة مجهدة اسمها المساهمة في مجالسة الأطفال مجالسة جادة ومثيرة مثل مجالسة كتاب.
* أعود طفلة ألعب بالقفز على مربعات مرسومة بالطباشير وأحجل على رجل واحدة، هي رجلي السليمة الوحيدة على أي حال، لأدفع حجرًا بين المربعات دون أن أمس خطًا من خطوط الطباشير وإلا انتهى دوري وأخذ الدور ذلك الطفل المتربص بضحكاته الشقية على حركتي السلحفائية، غير أن تلك اللعبة التي كان يسميها جيلي «الحجلة» أو«بربر» أو «إكس أوه» تبدو لعبة أليفة عند لعبة الحجلة الإلكترونية التي تتشكل على شكل خطوط ضوئية متشابكة على الأرض وعلي أن أجتازها إن أردت أن أنجح في محاولة مشاغلة محمد وعبدالرحمن بن غسان عن الآيباد.
* أحرك الساعة إلى الوراء بطاقة سحرية يحسدني عليها أمهر الساحرات وأنا أدخل يدي بخفة في جيب أحد الأطفال أو أردد بهمس أفتح يا سمسم فيخرج كتابًا من كتاب المكتبة الخضراء التي كانت كتبها نافذتنا الوحيدة على العالم الافتراضي لأهرب بانتباههم (هيهات هيهات) بعيدًا عن نوافذ العصر المتعددة التي تكاد تجعل شاشة الآي فون المجال الوحيد للنظر المستحق للانتباه في الإقامة وفي السفر.
* أعيد الوقت لأيام طفولتي بنفس الخفة في محاولة لمشاركتهما أسراري واكتشافاتي العظيمة لتلك المرحلة كدهشة طيارات الورق أو متعة لعبة الكيرم التي كثيرا ما تبدو محاولة بائسة إن لم تكن فاشلة لإقامة منافسة بين بطة بثلاث أقدام وفراشة بعدة أجنحة.
* أستخف وألعب الكرة معهم ولكنهما لا يلبثان بمكر طفولي أن يكتشفا كم أنا دخيلة ومدعية في مجال كرة القدم على وجه الدقة فلا اسم ميسي ولا معرفتي بالهلال والنصر وليفربول وريال مدريد تكفي لإخفاء جهلي.
إلا أن النجاح الحقيقي وإن كان قد يكون الوحيد في كل هذه المحاولات هو هز أركان تلك العلاقة الرأسية بمفهومها الأبوي بين الكبار والصغار بما فيها علاقة الأجداد بالأحفاد وإعطائها اتجاها أفقيا رحبا، مرحا ما أمكن، ومتعدد الأبعاد.
أما الفائدة التي قد لا يعترف بها الأجداد في علاقتهم بالأحفاد أو ربما لا يعرفونها جميعًا هي أن العلاقة بالأحفاد ليست فقط لفائدة الأحفاد والعناية بهم أو شغل أوقاتهم بأشكال طبيعية أقل إلكترونية ولكنها أيضًا علاقة تنقذنا من تصلب المفاصل ومن انسداد الشرايين وتعيد اللياقة لقلوبنا ولأجسادنا معًا. فليس سهلا أن تعود طفلا بخيال جامح خلاب، والفائدة الأعظم هي التحدي العقلي الذي يضع فيها الأطفال أجدادهم من خلال إجبارهم على البراعة الإلكترونية وعلى متابعة التحديثات المتسارعة للأجهزة ولوتيرة متغيرات المحتوى إن أردنا حقًا أن نكون أجدادًا جديرين بثقة أطفال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وجديرين كما يوحي مسمى الأجداد بتجدد الحياة.