د. خيرية السقاف
لمفردة «الحج» وقع خاص في نفوسنا..
نحن الذين عاصرنا رحلة دروبه الطويلة الوعرة، وإمكاناته القليلة الزهيدة، وعفوية الإعداد له، والمثول في مشاعره المحدودة..
الحج خفق ذاتي جمْعيٌ في آن؛ حين يخفق في صدر، تنبض الخفقات بحضور الرغبة فيه في كل الصدور..
أذكر في مكة، ونحن نتحلق حول موائد الإفطار، ينطق صوته الأجش الرحيم بكلمات فيحلق الفرح في صدورنا، وكل سلامة فينا؛ فنترك الطعام، وننهض نقفز، نركض في الدار معًا: «حاجين حاجين»..
الرداء أبيض، والقلوب بيضاء، والحجيج حمائم سلام بيضاء..
حتى التراب نراه أبيض في مشاعر الحج، والحصى، والجبل، والطريق..
كل ذرة نراها بيضاء حتى الكلمة ينطقها الحاج، في مسارات الوقوف في الحافلات اتجاهًا للمشاعر، أو اختلافًا للإفاضة..
نتطهر حتى من أنفسنا حين يكون الحج طهرًا يعم، وبياضًا يشمل، وخفقًا يتحد في شلالات خيوط تنبعث من كل اتجاهات الطريق إليه والأداءات فيه، والنداءات، والدعوات والصلوات، حتى ماء الوضوء نرشفه عذبًا، ونلحق بأطراف أمهاتنا البيضاء..
نتشبث في الحج الأبيض، كما نتشبث بقلوبهن البيضاء..
وكبرنا وكبر الحج، وبقيت المشاعر قيد العناية، والرعاية، والبذل، والتطوير، والإضافة..
لم يتغير الحج في نفوسنا والبناء ينوف، والسبل تتسع، والطرق تتعدد، والوسائل تتقدم، والأعداد تنوف ما لم يخطر على الباب..
حتى اتسعت في أحداق الصغار المساحات، وازدحمت أمام نواظرهم المعطيات، وتنوعت بين أيديهم المتاحات..
وما مسَّ بياض الحج في المستقبلين الحجيج غبار، ولم يتأخر في سواعدهم نبض عطاء، وغدا الحج أممًا تفد لا أفرادًا تُعد.. وتطورت المشاعر لا لتكون ساحة مئات من البشر، ولا ألوف، بل ملايين..
ويظل الحج بوابة ليس لمن في بيوتنا العامرة بالبياض، والنقاء، والود، والعطاء، بل بوابات مشرعة عن كل سبيل لكل قاصد جوًّا، وبحرًا، وبرًّا..
ولم تعد بيوت الأفراد مناخًا، واستقبالاً، بل اعتلت لهم العمائر، والفنادق، والإيواء من أول لمسة قدم لهذه الأرض، حتى آخر طيف غبار لها عليها..
الحج يقنن لمفردة البياض الحياة، ويفسح للأرواح أن تمارسها فوق أرض لا تغلق أبوابها لفرحة طفل، ولا لشوق مسن، ولا لخفقة في صدر واجف من عناء، أو راجف من ثناء..
من حيث يأتون فثمة بساط لا يتعثرون..
ومن حيث نحن فإن الحج خفق لا يضمحل، ونبض لا يكل، وسلام أبيض يرفُّ ويهلُّ..