د. حسن بن فهد الهويمل
أن يُخْتار (الرسولُ) من العرب, فذلك إعلاء لذكرهم. وأن تُختار (اللغة العربية), لتكون لغة الذكر الحكيم, فذلك عِزٌ, وحفظٌ, وشرفٌ لا ينازع: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون}.
المهمة الأصعب حفظ هذا الشرف, وتحمُّله على الوجه الذي يرضي الله.
لقد تلقى المهاجرون, والأنصار, وسائر الأصحاب هذا الشرف العظيم: قولاً, وعملاً, فامتثلوا أوامره, واجتنبوا نواهيه, وأقاموا حدوده, وحروفه, وجاهدوا به حق جهاده, كما جاهدوا بأنفسهم, وأموالهم, ونشروا الإسلام: بالدعوة, والقدوة, والجهاد باللسان, والسنان, حَتَّى أسقطوا دولتين عظيمتين, تمثِّلان بزمانهما ما يمثِّله الغرب, والشرق: الفرس, والروم.
عُرِف إذَّ ذاك: (الخَوَرْنَقُ), و(السَّدِير), وعرف اليوم (الكريملن) و(البيت الأبيض).
لقد انشقت الصحراء عن أمة مغمورة, مجهولة, مُهَمَّشةٍ. فأتت على حضارتين عريقتين من قواعدها, وسادت العالم, بحضارة سماوية حققت إنسانية الإنسان, ومكنته من تحمل الأمانة التي عُرضت على السماوات, والأرض فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا .
بهذه الرسالة العربية: إنساناً, ولغةً حقق العرب ما لم تحققه أمةٌ من قبل. نشروا: العدلَ, والرحمة, والمساواة, والحرية, والأخلاق. ووضعوا مبادئ السياسة, والاقتصاد, والقوانين, وارتبطت آية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء . بالعلم التجريبي, كما يتضح من سياق الآية. وهو ما لم يدركه بعض المفسرين. ومن ثم قصروه على العلم الشرعي: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور .
هذا السياق علمي تجريبي, يكتشف من خلاله العلماءُ عظمة الخالق في تنوّع المخلوقات, ثم تأتي الخشية القائمة على التأمل, والمتابعة, والتجريب, والاكتشاف.
هذه الأمة بتاريخها: المدني, والحضاري. الحسي, والمعنوي. السياسي, والعسكري خلَّفت لنا تاريخاً مشرِّفاً ذا شقين: - تاريخ سياسي. كتبه (الطبري), و(ابن كثير).
- وتاريخ حضاري. كتبه ( الذهبي), و(البغدادي) و(العسكري).
هذا التاريخ الحافل بجلائل الأعمال, بهر الإنسانية, وشكل حضارة موازية لحضارات الأمم: البائدة, والقائمة.
هذه الأمة (المليارية), ضعفت أمام الضربات التآمرية, والغزو الفكري, والعسكري.
لقد شُغلت بنفسها, وصارت شيعاً استحر فيها القتل, والتدمير. ودخلت دوامة السوء, منذ الحملة المشؤومة (حملة نابليون), إذ لم تستطع الأمة العربية التعامل معها على الوجه الذي يكفل لها الخصوصية, والندية.
لقد بدأت البعثات بعد رحيل (الحملة). وبدأ التواصل غير المتكافئ, وجاء المستشرقون, وبدأت الترجمة, وتعددت قنوات التواصل, وظلت الدهشة, والانبهار من عوائق التعامل المتكافئ.
لن أدخل في التفاصيل, ولكنني أشير إلى حدث جسد الموقف من الغرب.
(رفاعة الطهطاوي) شيخ أزهري, أُرسل مع المبتعثين ليربط على قلوبهم, ويحافظ على أخلاقهم, وأفكارهم. فكان أن انجرف في الاستغراب, ومن السهل - والحالة تلك - أن ينجرف فيه من دونه.
ظلت الأمة العربية في حيرة من أمرها, تتنازعها الحزبيات, والمذاهب الغربية: (علمانية), و(ليبرالية), و(عقلانية), و(ماركسية), و(ماسونية), و(حداثوية). واستفحل تنازعها, وذهبت ريحها, وتغلب عليها عدوها.
لقد أضاعت مجدها. وجاء الشعراء يتحسرون (حافظ) يبكي بلسان اللغة العربية, و(محمود غنيم) يندب حظ الأمة الإسلامية, و(أبو ريشة) يستنهض همة الأمة العربية.
وجاءت (الانقلابات العسكرية), و(الربيع العربي) لكتابة الفصل الأخير من حياة أمة صنعت أعظم حضارة, وكتبت أعظم تاريخ.
ولم يبق إلا (جرثومة) العروبة, والإسلام - الأصل, والمصدر, ومجتمع أشيائه - في أرض البعثة, والمقدسات. ومنطلق الشعر, والأدب, ومسرح الشعراء. نسأل الله لها, ولقادتها, ولعلمائها, ولسلفيتها المتسامحة, المتعايشة الثبات, والاستقرار, والاستقامة على المأمور.